في أحد بيوت الكويت في منتصف الثمانينيات جلس طفلٌ صغير أمام جهاز غريب يشبه صندوقاً رمادياً تتدلى منه أسلاكٍ كثيرة، كانت شاشة التلفاز تعرض واجهة جديدة مليئة بالحروف لكن هذه المرة لم تكن إنجليزية لقد كانت العربية بكل وضوحها وجمالها، إنه محمد الشارخ.
في ثمانينيات القرن الماضي كان الحاسوب الشخصي قد بدأ ينتشر عالمياً لكن اللغة العربية لم تجد لنفسها مكاناً في هذا العالم الجديد، لم يكن هناك دعم للحروف العربية ولا برامج قادرة على التعامل مع النصوص العربية بسلاسة، وفي وسط هذا التحدي ظهر أسم محمد عبد الرحمن الشارخ، رجل الأعمال الكويتي والمفكر الذي حلم أن تكون العربية حاضرة في الثورة الرقمية منذ بداياتها، ذلك الطفل وذلك الصندوق الرمادي لم يكن مجرد حاسوب، كان صخر MSX أول حاسوب يتحدث العربية.
الأجزاء السابقة:
محمد الشارخ ورحلة إدخال العربية إلى عصر الحواسيب
- النشأة والتعليم
- مناصب قيادية
- رمز يُحبب العلم في الصغر
- من الجذر إلى القمة
- معجزة صخر
- أثره وإرثه
- كلمة أخيرة
1 | النشأة والتعليم
محمد الشارخ رجل أعمال كويتي وُلد عام 1942 في الزبير حيث ترعرعت أسرته التي نزحت من روضة السدير، ساهم أفرادها في مجالات علمية وإدارية منذ بداية القرن العشرين.
تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة النجاة الأهلية في الزبير ثم انتقل إلى الكويت لإستكمال دراسته، حصل على بكالوريوس في الإقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1965 ثم تابع دراسته في الولايات المتحدة وحصل على الماجستير في التنمية الإقتصادية من كلية ويليامز بولاية ماساتشوستس ثم أكمل دراساته العليا في جامعة هارفارد.
كان بإمكانه سلك طريق أكثر أماناً في عالم الأعمال لكنه لم يكتف بهذا المسار التقليدي حيث حمل هاجساً ثقافياً ومعرفياً مع اللغة العربية وثقافتها، كان يؤمن أن الحاسوب لن يكون مجرد أداة غربية بل يمكن أن يصبح جسراً يحملها إلى المستقبل، إلى فضاء الحوسبة مثلها مثل الإنجليزية أو اليابانية.
2 | مناصب قيادية
بعد عودته للكويت شغل مناصب مرموقة منها نائب المدير العام للصندوق الكويتي للتنمية (1969–1973)، ثم نائب المدير التنفيذي للبنك الدولي في واشنطن (1973–1975) ومن ثم ترأس مجلس إدارة البنك الصناعي الكويتي حتى عام 1979.
كما أسس الشركة العالمية للإلكترونيات في الكويت والسعودية وكان نائباً لرئيس جمعية الاقتصاديين العرب، شارك في تأسيس “معهد العالم العربي” في باريس بالإضافة إلى تمويل “مركز دراسات الوحدة العربية” و”المنظمة العربية للترجمة”.
3 | رمز يُحبب العلم في الصغر
حين أجتاز محمد الشارخ عالم الاقتصاد إلى مجال التقنية أراد أن يحمل مشروعه الجديد ذاك البُعد الثقافي العميق، استلهم اسم شركته من المثل العربي “العلم في الصغر كالنقش على الحجر” فأختار “صخر” ليكون رمزاً لمشروع يحفر لغته وثقافتها في المستقبل الرقمي.
4 | من الجذر إلى القمة
أسّس شركة صخر للبرمجيات عام 1982 كشركة كويتية تابعة للشركة العالمية للإلكترونيات، حيث بدأت مسيرتها بإنتاج برامج أطفال مثل ألعاب “أتاري” ثم أطلاق الحاسوب “صخر MSX” لاحقاً وبعدها إصدار “حاسوب صخر”.
استعان بالشركة العالمية بالإلكترونيات والعالم المصري الدكتور نبيل علي لوضع قواعد اللغة العربية ومفرداتها للحاسوب فنجح “صخر” أن يكون أول حاسوب معرّب يدعم العربية فعلياً، لم يكن الهدف بيع أجهزة فقط بل أن يُثبت أن العربية قادرة على الوقوف جنباً إلى جنب مع أي لغة أخرى في عالم التقنية.
5 | معجزة صخر
خلال عقد واحد فقط تحول حاسوب “صخر” إلى أيقونة في عالم التقنية العربي مع ابتكارات سبقت عصرها كانت بمثابة بوابة فتحت أمام العرب أول تجربة حقيقية مع الحاسوب بلغتهم الأم:
أول حاسوب عربي (1985):
- إطلاق صخر MSX بنظام تشغيل وبرامج عربية.
- معالج نصوص عربي وقاموس إلكتروني.
- منح ملايين الأطفال العرب أول تجربة مع الحاسوب بلغتهم الأم.
الريادة في التقنية:
- أول نظام OCR للتعرف الضوئي على الحروف العربية.
- القارئ الآلي، الترجمة الآلية، النطق العربي والتحليل اللغوي، توسعت هذه الجهود حتى عام 2010.
- مشروع “نور” للترجمة الآلية بين العربية والإنجليزية.
- أنظمة للتعرف على الصوت العربي وتحويله إلى نص.
- تعريب بنية الحاسوب بالكامل (الصرف، النحو والتشكيل الآلي) عبر جيل جديد من تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP) استغرق تطويرها نحو 10 سنوات.
المحتوى الثقافي والتعليمي:
- أول برنامج حاسوبي للقرآن الكريم وكتب الحديث.
- المعجم العربي المعاصر عام 2019 كأكبر قاعدة بيانات لغوية مجانية، يضم 125 ألف معنى وتركيب، و35 ألف مترادف ومتضاد بالإضافة إلى دمج المعاجم التراثية الشهيرة مثل: القاموس المحيط، تاج العروس ولسان العرب.
- تأسيس أرشيف الشارخ للمجلات الثقافية العربية الذي حوى أكثر من 272 مجلة، 15,800 عدد و325,600 مقالة من أكثر من 52 ألف كاتب و2 مليون صفحة مارسها الباحثون بشغف.
الإعتراف الدولي:
- ثلاث براءات اختراع أمريكية في الصوتيات واللغة.
- المساهمة في تعريب أنظمة تشغيل عالمية مثل ويندوز ولينكس.
- المشاركة في مؤتمرات دولية بوصفه صوتاً مدافعاً عن العربية رقمياً.
جوائز وتكريمات:
- جائزة منتدى النجاحات الخليجية – 1996.
- جائزة أفضل المنتجات في كومدكس مصر -1998.
- جائزة “صاحب الرؤية الإلكترونية” -2002.
- جائزة الرائد من مؤسسة الفكر العربي -2004.
- جائزة القمة العالمية لمجتمع المعلومات وجائزة “الاحتواء الإلكتروني” -2007.
- جائزة الدولة التقديرية من الكويت -2018.
- جائزة الملك فيصل تقديراً لدوره الريادي -2021.
6 | أثره وإرثه
لم يكن الشارخ مجرد رجل أعمال بل مُبشراً برؤية ثقافية ترى أن اللغة ليست مجرد أداة بل هي هوية وذاكرة أمة، بفضل جهوده لم تعد العربية “لغة مهمشة” أمام التقنية بل أمست جزءاً من المنظومة الرقمية العالمية.
رحل محمد الشارخ في 6 مارس 2024 عن عمر 81 عاماً لكنه ترك خلفه أثراً لا يُمحى:
- جيل كامل تعرّف على الحاسوب من خلال جهاز صخر.
- شركات التقنية العربية استفادت من البنية التي وضعها.
- أعماله أسست لمسار طويل أدى اليوم إلى بروز تطبيقات الذكاء الاصطناعي باللغة العربية.
لم تكن التقنية الحديثة هاجسه فقط، فقد كان الشارخ كاتباً حيث نشر أول قصة له بعنوان قيس وليلى (1968)، تلاها مجموعات قصصية مثل عشرة قصص (2006)، الساحة (2012)، أسرار (2017) ورواية العائلة (2018).
واليوم تواصل شركة صخر مسيرتها تحت إدارة ابنه فهد الشارخ لتبقى شاهدة على أن الحلم الذي بدأه والده لم ينطفئ بعد، هذا الحلم الذي ما زال جيلاً كاملاً يتذكر لحظات جلوسه أمام جهاز صخر لأول مرة والشعور بالفخر وهو يرى العربية تضيء على الشاشة.
حينما نكتب رسالة أو نستخدم تطبيقاً ذكياً بالعربية فإننا بطريقة ما نمدّ خيطاً خفياً يعود إلى تلك اللحظة الأولى، إلى الرجل الذي علّم الحاسوب أن يتحدث بلغتنا اللغة العربية.
7 | كلمة أخيرة
قصة محمد الشارخ ليست مجرد سيرة رجل أعمال بل حكاية أمة أرادت أن تجد صوتها في العصر الرقمي، لقد كان حجر الأساس الذي جعلنا نكتب ونقرأ ونتواصل بالعربية عبر الحواسيب والهواتف الذكية، وإذا كان مجتمع الغربي يفتخر بروّاد مثل ستيف جوبز وبيل غيتس فإننا بدورنا نملك جواهر عربية تناهز ما تم تقديمه في عالم التقنية مثل بلقاسم حبة ومحمد الشارخ والعديد غيرهم حيث يمثلون رمزاً مماثلاً رائداً جعل من لغتنا الأم شريكاً في المستقبل.