سوريَا تواجه تحديًا هائلاً في إزالة الألغام، ومع كل يوم يمر، يزداد الخطر على حياة المدنيين ويعيق جهود إعادة الإعمار. في تطور تاريخي، اتخذت الحكومة السورية خطوة جريئة نحو مواجهة هذا التحدي، معلنةً عن تنفيذ أول تجربة رسمية لطائرة مسيّرة متخصصة في مسح المناطق الملوّثة بالألغام والذخائر غير المنفجرة. هذه المبادرة، التي أثارت اهتمامًا واسعًا على المستويين الإنساني والتقني، تمثل نقطة تحول محتملة في كيفية التعامل مع هذه القضية المعقدة. التجربة الأولية، التي أُجريت في منطقة دروشا بريف دمشق، تهدف إلى تقييم دقة وكفاءة تحليل البيانات التي توفرها هذه التكنولوجيا المتقدمة، وتهدف في النهاية إلى تشغيل منظومة مسح جوي شاملة.
الألغام في سوريَا: واقع مُرّ وتحديات جمّة
منذ اندلاع الأزمة في سوريَا عام 2011، أصبحت البلاد للأسف حقلًا تجريبيًا للأسلحة المتنوعة، بما في ذلك الألغام الأرضية، والصواريخ، والذخائر العنقودية. فرق الدفاع المدني السوري وثقت استخدام أكثر من 70 نوعًا من الذخائر، بما في ذلك 13 نوعًا من القنابل العنقودية المحرمة دوليًا. هذا التلوث المتفجر لم يقتصر على المناطق العسكرية أو خطوط الجبهة، بل امتد ليشمل الأحياء السكنية، والأراضي الزراعية، وحتى أماكن لعب الأطفال، مما يشكل تهديدًا دائمًا للمدنيين.
التقارير الحقوقية، مثل تلك الصادرة عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”، تشير إلى أن الألغام ومخلفات الحرب تسببت في مقتل ما لا يقل عن 600 شخص منذ ديسمبر 2024، وإصابة المئات، مع تزايد حركة العودة إلى المناطق التي كانت يصعب الوصول إليها. ويؤثر خطر الألغام بشكل مباشر على سبل عيش الناس؛ فالمزارعون في ريف الرقة، على سبيل المثال، وجدوا حقولهم ملوثة عند عودتهم، مما يعرض حياتهم للخطر ويوقف الإنتاج الزراعي. بالإضافة إلى ذلك، تعرقل الألغام والذخائر غير المنفجرة العودة الآمنة للنازحين، وتعيق جهود إعادة الإعمار والتنمية الزراعية وإعادة تشغيل المصانع والورش.
تجربة الطائرة المسيّرة: خطوة نوعية في مسح الأراضي
أكد معاون وزير الطوارئ وإدارة الكوارث، حسام حلاق، أن التجربة التي أجرتها الوزارة في منطقة دروشا باستخدام هذه التكنولوجيا الحديثة تمثل “خطوة نوعية في تطوير قدرات الاستجابة الوطنية وتعزيز حماية المدنيين”. هذه التجربة، التي تعتبر الأولى من نوعها في سوريَة والشرق الأوسط، أثبتت نجاحها في تحديد الأجسام الملوثة بدقة، مع القدرة على توفير بيانات حول وزن وعمق وحجم هذه الأجسام. هذه المعلومات الدقيقة تساهم في تسريع عمليات إزالة الألغام وتقليل المخاطر التي تواجه الفرق الميدانية.
كما أوضح مدير المركز الوطني لإزالة الألغام، فادي الصالح، أن الطائرة المسيّرة قادرة على مسح مساحات واسعة خلال دقائق معدودة، وتحديد الأهداف بدقة تصل إلى سبعة أمتار تحت سطح الأرض. في التجربة الأخيرة، تمكنت الطائرة من مسح حوالي 10 آلاف متر مربع في 35 دقيقة فقط، وهو إنجاز كبير مقارنة بالطرق التقليدية اليدوية. هذا الكشف السريع والدقيق عن الألغام يساهم بشكل كبير في تأمين المناطق وتسهيل عودة الحياة الطبيعية إليها. ويعتبر مسح الألغام بشكل عام عملية معقدة وحساسة، وتعتمد على دقة الأدوات المستخدمة وخبرة الفرق الميدانية.
تحديث أدوات العمل الميداني: نحو مستقبل أكثر أمانًا
إن إدخال الطائرات المسيّرة في عمليات إزالة الألغام يمثل تحولاً جذريًا في استراتيجية الحكومة السورية. فبدلاً من الاعتماد بشكل كامل على المسح اليدوي الشديد الخطورة، يمكن الآن استخدام منظومات ذكية لتغطية مساحات واسعة بدقة عالية وفي وقت أقل. كما أن هذه التكنولوجيا تساهم في رفع مستوى السلامة، حيث يمكن فحص المواقع عن بعد قبل دخول الفرق الميدانية، مما يقلل من تعرضهم للخطر.
التحديات التي لا تزال قائمة
على الرغم من الإمكانات الواعدة لهذه التكنولوجيا، إلا أن هناك بعض التحديات التي يجب معالجتها لضمان نجاحها. أحد هذه التحديات هو غياب أبراج تحديد المواقع GPS في بعض مناطق سوريَة، مما قد يؤدي إلى نسبة خطأ محدودة في تحديد المواقع. بالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات تتعلق بالتكلفة والتمويل، وإدارة البيانات، والبنية التحتية اللازمة لتشغيل وصيانة هذه الطائرات. ويتطلب الأمر أيضًا توفير العدد الكافي من الطائرات، والتدريب المستمر للعناصر التي ستشغلها، بالإضافة إلى الدعم الدولي الموعود بهذا الملف الحيوي. كما أن تطوير قدرات الكشف عن المتفجرات هو مجال آخر يحتاج إلى اهتمام خاص.
المستقبل: التعاون الدولي والحلول التقنية
إن مبادرة الطائرات المسيّرة ليست مجرد تطوير تقني، بل هي رسالة قوية تؤكد التزام الحكومة السورية بحماية المدنيين وتأمين العودة الآمنة. كما أنها تفتح الباب أمام تعاون أوسع مع المنظمات الدولية والمانحين لدعم جهود إزالة الألغام في سوريَا. وبالنظر إلى حجم التحدي، فإن التعاون الدولي وتبادل الخبرات الفنية يعتبران أمرًا ضروريًا لضمان تحقيق التقدم المنشود. الاستفادة من الخبرات الألمانية، كما أشار حلاق، خير دليل على هذا التوجه.
وفي الختام، تمثل تجربة الطائرة المسيّرة خطوة أمل نحو مستقبل أكثر أمانًا لسوريَا. إنها دليل على أن الحكومة ملتزمة بإيجاد حلول مبتكرة للتحديات الإنسانية والتقنية التي تواجه البلاد، وأنها تسعى جاهدة لتوفير بيئة آمنة لعودة السكان وإعادة بناء الوطن. يمكن للمهتمين بالمساهمة في هذا الجهد الاطلاع على تقارير المنظمات الدولية المتخصصة في إزالة الألغام، ودعم المبادرات المحلية التي تهدف إلى رفع الوعي بمخاطر الألغام وتوفير المساعدة للضحايا.
