الذكاء الاصطناعي يخطو نحو فك رموز الأمراض النادرة: اكتشاف الطفرات الجينية غير المعروفة
تواجه ملايين الأسر حول العالم تحديات صحية معقدة بسبب الأمراض النادرة، وغالبًا ما يطول أمد البحث عن التشخيص الدقيق. ولكن، يبدو أن هناك بصيص أمل جديدًا يلوح في الأفق بفضل التقدم المذهل في مجال الذكاء الاصطناعي. فريق دولي من العلماء نجح في تطوير نموذج مبتكر قادر على تحديد الطفرات الجينية البشرية التي لم تُكتشف من قبل، وتقييم مدى احتمالية ارتباطها بتطور الأمراض. هذا الإنجاز يمثل نقلة نوعية في فهمنا لهذه الحالات المعقدة، ويفتح آفاقًا واسعة لتحسين التشخيص والعلاج.
ما هو نموذج popEVE وكيف يعمل؟
النموذج الجديد، الذي أُطلق عليه اسم popEVE، هو ثمرة تعاون بين خبراء من مركز تنظيم الجينوم في برشلونة وكلية الطب بجامعة هارفارد. يعتمد popEVE على خوارزمية EVE التي ظهرت لأول مرة عام 2021، والتي تركز على تحليل التأثير التطوري للطفرات الجينية. بعبارة أخرى، لا يفحص النموذج التغيير الجيني بمعزل عن غيره، بل يقيّم مدى تأثيره على البروتينات ووظائف الخلايا عبر ملايين السنين من التطور.
هذا التقييم يعتمد على قاعدة بيانات ضخمة تضم معلومات جينية من مئات الآلاف من الأنواع الحيوية المختلفة. ومن خلال مقارنة التغييرات الجينية البشرية بأنماط التطور المعروفة، يمكن للنموذج تحديد ما إذا كانت الطفرة الجديدة ضارة أم لا، بل والتنبؤ بأي نوع من المشاكل الصحية قد تسببها. إنها أشبه بوجود “ذاكرة تطورية” تساعد في تحديد الأنماط الخفية في الشفرة الجينية.
تفوق على نماذج الذكاء الاصطناعي الأخرى
لا يقتصر تميز popEVE على دقته العالية في التنبؤ بآثار الطفرات الجينية فحسب، بل يتجاوز أيضًا النماذج المنافسة في هذا المجال. أظهرت الاختبارات أن popEVE يتفوق على نموذج AlphaMissense الذي طورته شركة جوجل DeepMind، وهو ما يعكس فعالية منهجه القائم على تحليل التطور.
هذا التفوق يرجع جزئيًا إلى قدرة النموذج على التعامل مع طفرات معينة تسمى “missense”، وهي التغييرات التي تؤدي إلى استبدال حمض أميني واحد داخل البروتين. هذه الطفرات، على الرغم من صغر حجمها، يمكن أن يكون لها تأثير كبير على وظيفة البروتين، وبالتالي على الصحة العامة.
نتائج اختبارات سريرية مشجعة
خضع نموذج popEVE لسلسلة من الاختبارات الصارمة لتقييم أدائه في الواقع العملي. تم استخدامه لتحليل البيانات الجينية لـ 31 ألف عائلة لديها أطفال يعانون من اضطرابات نمو شديدة. في 513 حالة لاحظ فيها العلماء ظهور طفرة جينية جديدة تمامًا لدى الأطفال، تمكن popEVE من تحديد الطفرة الأكثر ضررًا بدقة مذهلة وصلت إلى 98%.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد كشف النموذج أيضًا عن 123 جينًا نشِطًا في الدماغ النامي، وهي تتفاعل مع بروتينات مسببة لأمراض معروفة، ولكن لم يتم ربطها سابقًا باضطرابات النمو. هذا الاكتشاف يفتح مسارات جديدة للبحث والتطوير لاستهداف هذه الجينات وتطوير علاجات فعالة.
إمكانية الوصول والتطبيق في الدول النامية
أحد الجوانب الهامة في نموذج popEVE هو أنه لا يتطلب قدرًا كبيرًا من الطاقة الحسابية لتشغيله. وهذا يعني أنه يمكن استخدامه بسهولة في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، حيث قد تكون الموارد محدودة. وقد تم بالفعل اختبار النموذج بنجاح في حالات مرضية في السنغال، حيث ساهم في تشخيص وعلاج مريض يعاني من ضمور عضلي عن طريق تعزيز مستويات فيتامين B2.
هذه القدرة على التكيف والاستخدام على نطاق واسع تجعل popEVE أداة قوية لإحداث تأثير إيجابي حقيقي على حياة المرضى في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن موقعهم الجغرافي أو مستواهم الاقتصادي.
مستقبل تشخيص الأمراض النادرة
إن تطوير نموذج popEVE يمثل خطوة حاسمة نحو مستقبل يتم فيه تشخيص الأمراض النادرة وعلاجها بشكل أسرع وأكثر فعالية. كما قال جوناثان فريزر، الباحث في مركز تنظيم الجينوم في برشلونة: “إن هناك العديد من الطرق التي يمكن أن تؤدي بها الطفرات الجينية الفردية إلى المرض، ومع هذا العدد الكبير من المرضى غالبًا ما يكون هناك نقص شديد في المعلومات المتاحة. إن من الصعب تشخيص المرض، ومن الصعب فهم كيفية علاجه، ونأمل أن يكون هذا النموذج أداة عامة جديدة تساعد في العملية”.
وبينما لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، فإن هذا الاختراع يمنح الأمل للعائلات التي تعاني من الأمراض الوراثية النادرة، ويفتح الباب أمام جيل جديد من الأدوات والتقنيات التي ستساعد في فك رموز الشفرة الجينية ومعالجة هذه التحديات الصحية المعقدة. سواء كنت طبيبًا أو باحثًا أو مريضًا أو أحد أفراد أسرته، فإن التقدم في مجال علم الجينوم و التحليل الجيني يحمل وعدًا بمستقبل أكثر صحة وأكثر إشراقًا.
Secondary Keywords Used: علم الجينوم, التحليل الجيني, الطاقة الحسابية.
