يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال تطوير الأدوية جدلًا واسعًا بين مختلف الأطراف المعنية، من علماء وباحثين ومستثمرين وجمهور عام، ويتأرجح هذا الجدل بين التفاؤل الحذر والتشكيك العميق.
إذ يتبنى بعض الباحثين والشركات وجهة نظر طموحة ترى في الذكاء الاصطناعي قوة دافعة لتحويل مسار صناعة الأدوية، مشيرين إلى الزيادة الكبيرة في الأبحاث والاستثمارات في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة.
ويُعدّ نجاح نماذج مثل (AlphaFold) الذي طورته جوجل، والذي حاز على جائزة نوبل في الكمياء لعام 2024 لقدرته على التنبؤ بهياكل البروتينات وتصميم بروتينات جديدة، دليلًا قويًا على إمكانات الذكاء الاصطناعي في تسريع وتيرة تطوير الأدوية.
ومع ذلك، حذر بعض الخبراء المخضرمين في صناعة الأدوية من المبالغة في تقدير إمكانات الذكاء الاصطناعي، إذ يصف هؤلاء استخدام الذكاء الاصطناعي في اكتشاف الأدوية بأنه (هراء)، ويطالبون بإجراء فحص واقعي لإمكاناته في تسريع اكتشاف الأدوية.
ويستند هذا التشكيك إلى حقيقة أن الأدوية التي طُورت باستخدام الذكاء الاصطناعي لم تثبت حتى الآن قدرتها على خفض معدل الفشل المرتفع للأدوية الجديدة في التجارب السريرية، الذي تبلغ نسبته 90%، ويقارن هؤلاء بين نجاح الذكاء الاصطناعي في مجالات أخرى، مثل تحليل الصور، وتأثيره غير الواضح حتى الآن في تطوير الأدوية، مما يثير تساؤلات حول مدى فعاليته في هذا المجال المعقد.
ولكن من منظور أكثر توازنًا، يرى بعض الخبراء، ومن بينهم الدكتور دوكسين صن، العميد المساعد للأبحاث، وأستاذ العلوم الصيدلانية في كلية الصيدلة في جامعة ميشيجان، والدكتور كريستيان مقدونيا، الأستاذ المساعد للعلوم الصيدلانية في كلية الصيدلة في جامعة ميشيجان، ومدير برنامج وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (DARPA) السابق، أن الذكاء الاصطناعي لم يغير قواعد اللعبة بشكل كامل حتى الآن، ولكنه في الوقت نفسه ليس مجرد هراء أو وعود زائفة.
ويشدد هؤلاء على أنه يجب فهم الذكاء الاصطناعي على أنه أداة قوية، وليست عصا سحرية أو صندوقًا أسودًا يمكنه تحويل أي فكرة إلى دواء ناجح، بل هو أداة تحليلية متطورة عند استخدامها بحكمة وكفاءة، يمكن أن تساعد في معالجة بعض الأسباب الجذرية لفشل الأدوية في المراحل المختلفة.
ويتمثل الهدف الرئيسي لمعظم الأعمال التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في تطوير الأدوية في تقليل الوقت والتكلفة الباهظة اللازمة لطرح دواء واحد في السوق، إذ تشير التقديرات الحالية إلى أن عملية تطوير دواء جديد تستغرق مدة ة تتراوح بين 10 سنوات و15 سنة، وتتراوح تكلفتها بين مليار وملياري دولار أمريكي، وتشكل هذه التكلفة والمدة الزمنية الطويلة تحديًا كبيرًا أمام شركات الأدوية، كما تؤثر في سرعة توفر علاجات جديدة للمرضى.
لذلك السؤال المطروح هو: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدث ثورة حقيقية في تطوير الأدوية ويحسن من معدلات النجاح بنحو كبير؟
أولًا؛ تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير الأدوية:
يطبق الباحثون الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في جميع مراحل عملية تطوير الأدوية، بدءًا من تحديد الأهداف الدوائية في الجسم، وفحص المركبات الدوائية المحتملة، وتصميم جزيئات الدواء، والتنبؤ بالسمية، ووصولًا إلى اختيار المرضى الذين قد يستجيبون بشكل أفضل للأدوية في التجارب السريرية.
وقد شهدنا بالفعل بعض النجاحات الملموسة في استخدام الذكاء الاصطناعي لتسريع تطوير الأدوية، فخلال المدة الممتدة من عام 2010 إلى عام 2022، تمكنت 20 شركة ناشئة متخصصة في الذكاء الاصطناعي من اكتشاف 158 مركبًا دوائيًا محتملًا، وصل 15 منها إلى مرحلة التجارب السريرية.
والأهم من ذلك، تمكنت بعض هذه المركبات من إكمال الاختبارات ما قبل السريرية والانتقال إلى التجارب على البشر في غضون 30 شهرًا فقط، مقارنة بالمدة النموذجية التي تتراوح بين 3 و 6 سنوات. ويظهر هذا الإنجاز بوضوح إمكانات الذكاء الاصطناعي في تسريع عملية تطوير الأدوية وتقليل الوقت اللازم لطرح علاجات جديدة للمرضى.
ومع ذلك؛ بينما تظهر نماذج الذكاء الاصطناعي قدرة ملحوظة على تحديد المركبات الدوائية الواعدة بسرعة في البيئات المعملية المحكمة، أو في النماذج الحيوانية التي تحاكي بعض جوانب الأمراض البشرية، يظل نجاح هذه المركبات في المراحل الحاسمة من التجارب السريرية، التي تجرى على البشر، موضع شك كبير، إذ تُعدّ التجارب السريرية المرحلة التي تشهد فيها غالبية الأدوية الجديدة الفشل، إذ تظهر الآثار الجانبية غير المتوقعة أو عدم الفعالية المطلوبة.
ويعزى هذا التحدي جزئيًا إلى نقص البيانات المتاحة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي في مجال تطوير الأدوية، إذ يعاني هذا المجال محدودية حجم البيانات وانخفاض جودتها، بعكس المجالات الأخرى، ويُعدّ إنشاء مجموعات بيانات شاملة ودقيقة حول تأثير ملايين أو مليارات المركبات الدوائية المحتملة في الخلايا أو الحيوانات أو البشر مهمة بالغة الصعوبة والتكلفة.
ومع أن نموذج (AlphaFold) يُعدّ إنجازًا هامًا في مجال التنبؤ بهياكل البروتينات، التي تُعدّ خطوة أساسية في فهم كيفية عمل الأدوية، ولكن دقته في تصميم أدوية فعالة لا تزال غير مؤكدة، لأن حتى التغييرات الطفيفة جدًا في التركيب الجزيئي للدواء، التي قد تبدو للوهلة الأولى ليست مهمة، يمكن أن تحدث تغييرًا كبيرًا في كيفية تفاعل الدواء مع الجسم، ومن ثم تؤثر كليًا في فعاليته العلاجية وقدرته على علاج المرض المستهدف.
ثانيًا؛ ما تحديات تطبيق الذكاء الاصطناعي في تطوير الأدوية؟
على غرار الذكاء الاصطناعي، شهدت الابتكارات السابقة في مجال تطوير الأدوية، مثل: تصميم الأدوية بمساعدة الحاسوب، ومشروع الجينوم البشري، وتقنيات الفحص العالي الإنتاجية، تحسينات ملحوظة في خطوات محددة من عملية التطوير على مدى الأربعين عامًا الماضية، ومع ذلك، لم يشهد معدل فشل الأدوية انخفاضًا يُذكر، مما يشير إلى أن المشكلة قد تكون أعمق من مجرد تحسين خطوات فردية في العملية.
ويتمتع معظم الباحثين المتخصصين في الذكاء الاصطناعي بقدرة عالية على معالجة مهام محددة ضمن عملية تطوير الأدوية، خاصةً عند تزويدهم ببيانات عالية الجودة وأسئلة بحثية واضحة ومحددة، ولكن غالبًا ما يفتقر هؤلاء الباحثون إلى فهم شامل للنطاق الكامل لعملية تطوير الأدوية المعقدة، مما يدفعهم إلى اختزال التحديات إلى مجرد مشاكل في تعرّف الأنماط وتحسين خطوات فردية في العملية.
ومن ناحية أخرى، يفتقر العديد من الباحثين ذوي الخبرة الطويلة في مجال تطوير الأدوية إلى التدريب والمعرفة اللازمة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وتشكل هذه الفجوة المعرفية حواجز تواصل فعّالة تعيق التعاون المثمر بين الجانبين، وتمنع من تجاوز آليات عمليات التطوير الحالية وتحديد الأسباب الجذرية لفشل الأدوية.
ويمكن القول إن الأساليب الحالية لتطوير الأدوية، بما يشمل الأساليب التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، قد وقعت في فخ يُعرف باسم (انحياز البقاء) Survivorship Bias، ويتمثل هذا الانحياز في التركيز بنحو مفرط في أقل الجوانب أهمية من العملية، وتجاهل المشاكل الرئيسية التي تساهم بنحو أكبر في الفشل.
ويشبه هذا الوضع إصلاح الضرر الذي لحق بأجنحة الطائرات العائدة من ساحات المعارك في الحرب العالمية الثانية، مع إهمال نقاط الضعف القاتلة في محركات أو قمرة القيادة للطائرات التي لم تعود أبدًا.
وبالمثل، غالبًا ما يركز الباحثون في كيفية تحسين خصائص الدواء الفردية، مثل الفعالية أو السمية، بدلًا من معالجة الأسباب الجذرية للفشل، مثل عدم فهم الآليات البيولوجية للمرض أو عدم كفاية النماذج قبل السريرية.
وتشبه عملية تطوير الأدوية حاليًا خط تجميع صناعي، معتمدة على نهج (قائمة التحقق) checkbox approach، مع إجراء اختبارات مكثفة في كل مرحلة من مراحل العملية، وبينما قد يتمكن الذكاء الاصطناعي من تقليل الوقت والتكلفة في المراحل ما قبل السريرية القائمة على المختبر في خط التجميع هذا، فمن غير المرجح أن يحسّن معدلات النجاح في المراحل السريرية الأكثر تكلفة، التي تنطوي على اختبار الأدوية على البشر.
ويؤكد هذا القيد استمرار معدل فشل الأدوية بنسبة تبلغ 90% في التجارب السريرية، على الرغم من مرور 40 عامًا من التحسينات في العملية، ويشير ذلك إلى أن المشكلة لا تكمن فقط في كفاءة المراحل الفردية، بل في النهج العام لتطوير الأدوية.
ثالثًا؛ معالجة الأسباب الجذرية لفشل تطوير الأدوية:
لا يقتصر فشل الأدوية في التجارب السريرية على تصميم الدراسات فحسب، بل يُعدّ اختيار الأدوية غير الصحيحة المرشحة للاختبار عاملًا حاسمًا يساهم في ارتفاع معدلات الفشل، وتقدم الإستراتيجيات الجديدة الموجهة بالذكاء الاصطناعي حلولًا واعدة لمواجهة كلا التحديين: تصميم الدراسات واختيار الأدوية المرشحة.
وفي الوقت الحالي، توجد ثلاثة عوامل رئيسية مترابطة تقف وراء معظم حالات فشل الأدوية في التجارب السريرية، وهي:
- الجرعة: تفشل بعض الأدوية بسبب صعوبة تحديد الجرعة المثالية، فقد تكون الجرعات المنخفضة غير فعالة، بينما قد تكون الجرعات العالية سامة أو تسبب آثارًا جانبية خطيرة.
- السلامة: تفشل أدوية أخرى بسبب سميتها العالية أو عدم سلامتها للاستخدام البشري، وقد تسبب هذه الأدوية تلفًا للأعضاء أو تؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة.
- الفعالية: تفشل العديد من الأدوية لأنها تُعدّ غير فعالة في علاج المرض المستهدف، وغالبًا ما يعود ذلك إلى عدم قدرة الدواء على الوصول إلى الهدف البيولوجي أو عدم تفاعله معه بالشكل المطلوب، أو بسبب عدم إمكانية زيادة الجرعة المعطاة للمريض إلى مستوى أعلى دون التسبب في ضرر أو آثار جانبية غير محتملة.
رابعًا؛ ما الذي يحمله المستقبل للذكاء الاصطناعي في تطوير الأدوية؟
يقترح الدكتور دوكسين صن، والدكتور كريستيان مقدونيا نظامًا يعتمد على التعلم الآلي للمساهمة في اختيار الأدوية المرشحة بدقة عالية، وذلك من خلال التنبؤ بخصائصها الثلاثة الحاسمة، وهي: الجرعة المناسبة، والسلامة، والفعالية، بناءً على خمس سمات للأدوية غالبًا ما يجري تجاهلها في الأساليب التقليدية.
ويتيح هذا النظام للباحثين استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي لتحليل هذه السمات والتنبؤ باحتمالية نجاح الدواء في التجارب السريرية، والسمات الخمس هي:
- مدى ارتباط الدواء بالأهداف المعروفة وغير المعروفة: يحلل النظام مدى ارتباط الدواء بالأهداف البيولوجية المعروفة المسببة للمرض، بالإضافة إلى قدرته على الارتباط بأهداف أخرى غير معروفة قد تؤثر في فعاليته أو سلامته.
- مستوى هذه الأهداف في الجسم: يحدد النظام مستوى تركيز الأهداف البيولوجية في الأنسجة والأعضاء المختلفة في الجسم، مما يساعد في فهم كيفية تفاعل الدواء مع هذه الأهداف.
- مدى تركيز الدواء في الأنسجة السليمة والمريضة: يتنبأ النظام بمدى تركيز الدواء في الأنسجة السليمة والمريضة، مما يساعد في تقييم مدى وصول الدواء إلى مكان الإصابة وتجنب التأثير في الأنسجة السليمة.
- الخصائص البنيوية للدواء: يحلل النظام الخصائص الكيميائية والبنيوية للدواء، مما يساعد في فهم كيفية تفاعله مع الجزيئات البيولوجية في الجسم والتنبؤ بخصائصه الدوائية.
- الخصائص الدوائية الحركية للدواء: يحلل النظام كيفية امتصاص الجسم للدواء وتوزيعه واستقلابه وإخراجه، مما يساعد في تحديد الجرعة المثالية وتجنب الآثار الجانبية.
ويمكن اختبار هذه السمات الخمس للأدوية التي تُولد باستخدام الذكاء الاصطناعي في ما يُطلق عليه (تجارب المرحلة 0+) phase 0+ trials، إذ تُستخدم جرعات منخفضة للغاية من الدواء على مرضى يعانون أمراضًا شديدة وخفيفة على حد سواء. ويمكن أن يساعد هذا النهج الباحثين في تحدي الأدوية المثالية للاستمرار في تطويرها، مع تقليل التكاليف الباهظة المترتبة على نهج (الاختبار والمراقبة) الحالي المستخدم في التجارب السريرية، الذي يعتمد على تجربة مجموعة كبيرة من الأدوية وتقييم نتائجها.
وفي الختام؛ قد لا يحدث الذكاء الاصطناعي وحده ثورة كاملة في مجال تطوير الأدوية، ولكنه يمكن أن يساهم بنحو كبير في معالجة الأسباب الجذرية لفشل الأدوية وتبسيط العملية الطويلة والمعقدة للحصول على الموافقة على دواء جديد.