في عالم يتسارع فيه تبني التقنيات الحديثة، يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أهم محركات التحول في مختلف القطاعات، وعلى رأسها القطاع المالي. يتصدر بنك جيه بي مورجان تشيس هذه الثورة، حيث يحقق استراتيجية الذكاء الاصطناعي التي يتبناها عوائد ملموسة وقابلة للقياس، ولكن هذا التقدم يأتي بتكلفة بشرية واضحة. هذا التحول الجذري يثير تساؤلات حول مستقبل العمل في القطاع المالي والموازنة بين الابتكار التكنولوجي وتأثيره على القوى العاملة.
جيه بي مورجان تشيس: ريادة الذكاء الاصطناعي وتأثيرها على الموظفين
يعيش أكبر بنك في أمريكا مرحلة تحول شاملة، مدفوعة باستثمار ضخم في الذكاء الاصطناعي. فقد وصل عدد موظفي البنك الذين يستخدمون منصة LLM Suite – وهي منصة تعتمد على نماذج لغوية كبيرة (Large Language Models) – إلى 200 ألف مستخدم يوميًا في غضون ثمانية أشهر فقط من إطلاقها في صيف 2024. هذه الأرقام تعكس التبني السريع للذكاء الاصطناعي داخل المؤسسة، وتحديدًا الاستفادة من قدراته في تحسين الكفاءة وتسريع العمليات.
وكشف كبير مسؤولي التحليلات في البنك، ديريك والدرون، عن أن العوائد المتعلقة بالذكاء الاصطناعي تشهد نموًا سنويًا يتراوح بين 30% و40%. هذا النمو يمثل مؤشرًا قويًا على فعالية الاستراتيجية المتبعة، ويشير إلى أن البنك على المسار الصحيح نحو تحقيق أهدافه الطموحة في أن يصبح أول “مؤسسة متصلة بالكامل بالذكاء الاصطناعي”.
البنية التحتية الداعمة لثورة الذكاء الاصطناعي
لا يقتصر الأمر على تبني التقنيات، بل يتعلق ببناء بنية تحتية قوية ومرنة تدعم هذا التحول. يستثمر بنك جيه بي مورجان تشيس ما يقرب من 18 مليار دولار سنويًا في التكنولوجيا، مما يتيح له تطوير وتطبيق أكثر من 450 حالة استخدام للذكاء الاصطناعي في مختلف أقسام البنك.
وقد حازت منصة LLM Suite على جائزة الابتكار الكبرى لعام 2025 من American Banker، وهو دليل على التميز والريادة التي يحققها البنك في هذا المجال. وتعتبر هذه المنصة ليست مجرد أداة بسيطة، بل “نظامًا بيئيًا كاملاً” يربط بين الذكاء الاصطناعي، والبيانات، والتطبيقات، وسير العمل على مستوى المؤسسة. تتميز هذه البنية المحايدة للنموذج بقدرتها على دمج نماذج مختلفة من مقدمي الخدمات مثل OpenAI وAnthropic، مع تحديثات منتظمة كل ثمانية أسابيع.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العمل المصرفي
تتعدى تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جيه بي مورجان تشيس مجرد الدردشة الآلية. ففي مجال الخدمات المصرفية الاستثمارية، يمكن الآن إنشاء عروض تقديمية من خمس صفحات في غضون 30 ثانية فقط، وهو ما كان يستغرق ساعاتًا في السابق. كما يستطيع المحامون استخدام الذكاء الاصطناعي لفحص وصياغة العقود بشكل أسرع وأكثر دقة.
أما المتخصصون في الائتمان، فيمكنهم استخراج المعلومات الهامة من الوثائق الضخمة على الفور. وحتى في خدمة العملاء، تعمل أداة مركز الاتصال EVEE Intelligent Q&A على تحسين أوقات الاستجابة وتقديم حلول أكثر فعالية من خلال فهم السياق بشكل أفضل.
الثمن البشري للتقدم التكنولوجي
على الرغم من العوائد الإيجابية، لا يخفي بنك جيه بي مورجان تشيس الآثار السلبية لتبني الذكاء الاصطناعي على القوى العاملة. فقد أعلن البنك عن توقعاته بانخفاض عدد موظفي العمليات بنسبة 10% على الأقل، مع انتشار استخدام “وكلاء الذكاء الاصطناعي” – وهي نظم مستقلة تتعامل مع مهام متعددة الخطوات.
هذا الانخفاض في عدد الموظفين يعكس حقيقة أن الذكاء الاصطناعي قادر على أتمتة العديد من المهام الروتينية التي كان يقوم بها البشر في السابق. ومع ذلك، فإن هذا التحول يخلق أيضًا فرصًا جديدة، مثل وظائف “مهندسي السياق” المتخصصين في ضمان حصول أنظمة الذكاء الاصطناعي على المعلومات الصحيحة، وخبراء إدارة المعرفة، ومهندسي البرمجيات المهرة.
تشير الأبحاث، مثل تلك التي أجرتها جامعة ستانفورد، إلى أن التوظيف في المهن المعرضة للذكاء الاصطناعي قد انخفض بالفعل بنسبة 6% بين عامي 2022 و2025 بالنسبة للعاملين في بداية حياتهم المهنية.
تحديات التنفيذ والاعتبارات المستقبلية
يدرك بنك جيه بي مورجان تشيس أن تنفيذ استراتيجية الذكاء الاصطناعي لا يخلو من التحديات. من بين هذه التحديات، المخاطر المتعلقة بأمن البيانات عند استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي العامة، واحتمال فقدان المراجعين البشريين لتركيزهم وتفويت الأخطاء التي قد ترتكبها الأنظمة الذكية.
كما يواجه البنك صعوبة في سد “فجوة القيمة” بين قدرات التكنولوجيا وبين الاستفادة الكاملة منها داخل المؤسسة. ويؤكد والدرون أن التحول الكامل يتطلب سنوات من العمل الجاد والاستثمار المستمر.
دروس مستفادة للمؤسسات الأخرى
يقدم نهج جيه بي مورجان دروسًا قيمة للمؤسسات الأخرى التي تنوي تبني استراتيجية الذكاء الاصطناعي:
- إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول والتجريب مع عدم فرض أي شيء.
- بناء نظام آمن لحماية البيانات الحساسة.
- الاستثمار في بنية تحتية لا تعتمد على نموذج معين لتجنب الارتباط بمورد واحد.
- الموازنة بين التوجهات الاستراتيجية من الأعلى والابتكار من الأسفل.
- التدريب المستهدف للموظفين لتطوير مهاراتهم في مجال الذكاء الاصطناعي.
- تتبع عائد الاستثمار بدقة لضمان تحقيق أهداف العمل.
- الاعتراف بالتعقيدات والتخطيط وفقًا لذلك.
الخلاصة: تحول يتطلب رؤية شاملة
تعتبر استراتيجية الذكاء الاصطناعي التي يتبناها بنك جيه بي مورجان تشيس دراسة حالة شاملة وشفافة، تبرز الفوائد المحتملة والتحديات المصاحبة لهذا التحول. فالنجاح يتطلب استثمارًا ضخمًا، وبنية تحتية متينة، ونهجًا ديمقراطيًا، والتزامًا بالانضباط المالي.
ولكن الأهم من ذلك، هو الاعتراف بالتأثير البشري لهذا التحول، والعمل على تخفيف آثاره السلبية من خلال توفير فرص التدريب وإعادة التوظيف. السؤال المطروح ليس فقط ما إذا كانت استراتيجية الذكاء الاصطناعي ناجحة، بل ما إذا كانت التكلفة البشرية المقبولة لزيادة الكفاءة والربحية. إن مستقبل العمل في القطاع المالي يعتمد على قدرتنا على إيجاد توازن دقيق بين الابتكار التكنولوجي وبين رفاهية القوى العاملة.
هل تريد معرفة المزيد عن الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي؟ تابع أحدث المقالات والدراسات في هذا المجال، وشارك في الندوات والمؤتمرات المتخصصة.
