الذكاء الاصطناعي في جنوب شرق آسيا: تجاوز مرحلة الاختبارات نحو التحول الجذري
أظهر تقرير حديث صادر عن شركة Bain & Company أن العديد من المؤسسات في جنوب شرق آسيا لا تزال عالقة في مراحل الاختبار الأولية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وذلك بسبب تعاملها معه كمجموعة من الأدوات المنفصلة بدلاً من اعتباره تحولاً أساسياً في طريقة عمل الشركات. يؤكد التقرير على ضرورة تبني رؤية استراتيجية شاملة للاستفادة الحقيقية من هذه التقنية الثورية. يُطلق على هذا التقرير “دليل الرئيس التنفيذي لجنوب شرق آسيا للتحول في مجال الذكاء الاصطناعي”، ويوجه القادة نحو إعادة التفكير في نماذج أعمالهم قبل الاستثمار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
التحديات الفريدة لتبني الذكاء الاصطناعي في المنطقة
لا يشبه تبني الذكاء الاصطناعي في جنوب شرق آسيا الوضع في مناطق أخرى. إن التنوع الثقافي والاقتصادي في المنطقة يشكل تحديات فريدة. فمستويات الدخل والثقافة الشرائية تختلف بشكل كبير بين دول مثل سنغافورة وإندونيسيا وفيتنام، مما يجعل تطبيق حلول الذكاء الاصطناعي الموحدة صعباً.
بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تعاني الشركات في المنطقة من محدودية الحجم، مما يقلل من قدرتها على تحمل تكاليف التجارب الطويلة والمكلفة في مجال الذكاء الاصطناعي. وبالتالي، فإن مجرد تحقيق مكاسب طفيفة في الكفاءة غالباً ما لا يبرر الاستثمار. بدلاً من ذلك، يجب على الشركات التركيز على إعادة التفكير في عملياتها الأساسية وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعززها بشكل جذري.
متى يتحقق العائد الحقيقي على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي؟
وفقاً لتحليل Bain، تمثل الأجور في جنوب شرق آسيا حوالي 7% فقط من مثيلاتها في الولايات المتحدة. وهذا يعني أن إمكانية خفض التكاليف من خلال أتمتة المهام، وهي أحد المحفزات الرئيسية لتبني الذكاء الاصطناعي في الدول المتقدمة، محدودة نسبياً. كما أن القيمة السوقية للشركات الكبيرة في المنطقة لا تمثل سوى 40% من إجمالي القيمة السوقية، مقارنة بـ 60% في الهند.
لذلك، ينصح التقرير القادة بالتركيز على ثلاثة محاور رئيسية: السرعة، الحجم، والعمليات الجديدة. بدلاً من الاعتماد على خفض التكاليف وحده، يجب استهداف المجالات التي يمكن فيها للذكاء الاصطناعي أن يحدث فرقاً كبيراً في زيادة الإيرادات أو تحسين القدرة التشغيلية.
أمثلة على تطبيقات الذكاء الاصطناعي الناجحة
لحسن الحظ، بدأت بعض المؤسسات في جنوب شرق آسيا بالفعل في جني ثمار دمج الذكاء الاصطناعي في استراتيجيات أعمالها. على سبيل المثال، تستخدم بعض الشركات الذكاء الاصطناعي لتقصير دورات إطلاق المنتجات أو لتحسين إدارة سلاسل التوريد، مما يفتح آفاقاً جديدة لتوليد الإيرادات.
في قطاع التصنيع، يمكن استخدام النماذج التنبؤية القائمة على الذكاء الاصطناعي لتقليل وقت تعطل الآلات وزيادة الإنتاجية. وفي القطاع المالي، يمكن استخدام نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) لتسهيل عمليات الامتثال التنظيمي. هذه التطبيقات ليست مجرد تحسينات تدريجية، بل هي خطوات نحو تحول جذري في طريقة عمل هذه المؤسسات.
الأشخاص والبيانات والثقافة: مفاتيح نجاح الذكاء الاصطناعي
لا يقتصر التحول الناجح في مجال الذكاء الاصطناعي على التكنولوجيا فحسب، بل يعتمد بشكل كبير على الأشخاص والثقافة والبيانات. غالباً ما تنظر الشركات إلى تبني الذكاء الاصطناعي على أنه تحدٍ توظيفي، ولكن Bain & Company ترى أن المهارات المطلوبة غالباً ما تكون موجودة بالفعل داخل المؤسسة.
يكمن التحدي الحقيقي في تعزيز التعاون بين الفرق المختلفة وتزويد الموظفين بالتدريب اللازم لفهم كيفية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في عملهم اليومي. ويصف التقرير مجموعتين أساسيتين: “المختبر” الذي يضم فرقاً فنية تعمل على تطوير وتنفيذ حلول الذكاء الاصطناعي، و”الحشد” الذي يمثل بقية الموظفين الذين يحتاجون إلى استخدام هذه الأدوات بشكل فعال.
مركز الابتكار الإقليمي في سنغافورة
إدراكاً لأهمية دعم تبني الذكاء الاصطناعي في المنطقة، تعمل شركة Bain & Company على إنشاء مركز للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي في سنغافورة، بدعم من مجلس التنمية الاقتصادية في سنغافورة (EDB). يهدف هذا المركز إلى مساعدة الشركات على تجاوز مراحل الاختبار والتجريب، وبناء أنظمة ذكاء اصطناعي قابلة للتطبيق على نطاق واسع.
وسيغطي عمل المركز قطاعات رئيسية مثل التصنيع المتقدم والطاقة والموارد والخدمات المالية والرعاية الصحية والسلع الاستهلاكية. تتمتع سنغافورة بمنظومة ذكاء اصطناعي متنامية، تضم أكثر من ألف شركة ناشئة، ومن المتوقع أن تساهم بتقنية الذكاء الاصطناعي بحوالي 198.3 مليار دولار سنغافوري في الاقتصاد بحلول عام 2030.
الخلاصة: الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل هو تحول
في ظل تزايد المنافسة في جنوب شرق آسيا، ستكون الشركات التي تنظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه تحول جذري في طريقة عملها – كما يؤكد عليه دليل Bain & Company – هي الأكثر استعداداً لتحويل المشاريع التجريبية إلى نتائج مستدامة وطويلة الأجل. إن تبني الذكاء الاصطناعي يتطلب رؤية استراتيجية وشاملة، والتركيز على إعادة التفكير في نماذج الأعمال، والاستثمار في تطوير المهارات الداخلية، وضمان جودة البيانات. وإلا فإن خطر البقاء عالقاً في مرحلة الاختبارات الأولية سيظل قائماً.
للمزيد حول هذا الموضوع، يمكن الاطلاع على مقالاتنا الأخرى حول مستقبل الذكاء الاصطناعي ودوره في تحسين الأداء المؤسسي.
