في العديد من ألعاب الفيديو الحديثة أو حتى القديمة، هناك شيء واحد مشترك يظهر بشكل جلي في معظم الأعمال، وهو السرديات المبتذلة والأبطال الخارقون، وتتربع Far Cry 2 كظاهرة فريدة تقدم تجربة مُغايرة تمامًا عما عهدناه، فهي لم تكن مجرد لعبة، بل ملحمةٌ واقعيةٌ تُلقي باللاعب في قلب إفريقيا المُمزقة بنيران حرب أهلية لا تعرف الرحمة، ورحلة قاسية إلى أعماق الضمير الإنساني.
وبعيداً عن الصور النمطية والسيناريوهات المكررة، فقد أجبرتنا اللعبة لمن خاض مغامراتها في عام 2008 على مواجهة حقيقة قاسية حيث البقاء للأقوى والأذكى، حيث تتلاشى الأخلاق أمام قسوة العنف والفساد.. في هذا المقال، سنغوص في جوهر Far Cry 2، مُحللين عناصرها التي صاغت منها تحفةً فنيةً لا يمكن طمسها، من قصتها المعقدة وأسلوب لعبها الثوري إلى فيزيائها المذهلة ومحركها السابق لعصره، وسنستكشف الرسائل العميقة التي حاولت هذه اللعبة الجريئة إيصالها.
قصةٌ تُحاكي الواقع المُر وخيارات لا ترحم وصراعٌ لا ينتهي في قلب القارة
تُعيد أحداث Far Cry 2 تشكيل دولة إفريقية من وحي الخيال “ولكنها إشارة الى الواقع الحالي في قلب القارة السمراء” وتُجسد واقعًا مؤلمًا لصراع أهلي طاحن بين فصيلين مُتناحرين، وهما جبهة العمل المتحدة للتحرير والمقاومة UFLL وتحالف التحرير الشعبي APR. هنا، لا نلعب دور البطل الخارق، بل نتقمص شخصية مرتزق يصاب بالملاريا، أُرسل بمهمة اغتيال تاجر الأسلحة الغامض الملقب بـ The Jackal، وهي من أكثر الشخصيات غموضًا وقيل أنه نفسه “Jack Carver” بطل الجزء الأول Far Cry 1.. للمزيد حول هذه القصة اضغط هنا.
هذه الشخصية الغامضة تسعى جاهدة بذكائها وقدراتها وعلاقاتها أن تغذي نيران الحرب الأهلية، ولكن سرعان ما نجد أنفسنا مُنخرطين في دوامةٍ من الصراعات المعقدة، حيث تتلاشى الفروق بين الأخيار والأشرار، وتتوالى التحالفات الهشة والخيانات المُرّة، ليُصبح البقاء هو الهدف الأوحد في هذا الجحيم المُلتهب.
ما يُميز Far Cry 2 ويُعزز من واقعيتها هو حرية اللاعب غير المسبوقة في التعامل مع مجريات الأحداث، فلا وجود لمسار قصصي خطي، بل خيارات متعددة تُؤثر بعمق على سير اللعب وعلى النهاية. يُمكنك الانضمام إلى أحد الفصائل المتحاربة، أو محاولة العمل مع كليهما لتحقيق مصالحك، أو حتى اتباع مسارٍ مُستقلٍ تمامًا.
كل قرارٍ تتخذه يحمل تبعاته الثقيلة، وكل تحالفٍ قد ينقلب عليك في أي لحظة، وتُجبرك اللعبة على اتخاذ قراراتٍ صعبةٍ تُشكك في أخلاقياتك الخاصة، وتُعيد تعريف مفهوم الصواب والخطأ في عالم مُغطى بظل العنف واليأس.
أسلوب لعب ثوري وفيزياءٌ حبست الأنفاس
ان أكر من ميز لعبة Far Cry 2 هو أسلوب اللعب الواقعي، والذي يتبقى مفهومًا يضع فيه البقاء والتكيف في صميم التجربة، فإلى جانب إصابتك بمرض الملاريا، فإنك ستحتاج علاجًا دوريًا وتناول الدواء كلما ازدادت الأعراض، لكي تشعر بطبيعة القارة وبيئتها الموحشة وهذا يعطي مزيدًا من الواقعية والتحدي والتوتر، لكن عليك أيضًا إدارة مواردك بحكمة، من أسلحة وذخيرة وأدوات طبية.
الأسلحة في اللعبة ليست مجرد أدوات للقتل، بل يمكن اعتبارها بأدوات أقرب الى الواقعية أكثر من أي لعبة أخرى، فهي تتعرض للعطب والسخونة الزائدة عند الاستخدام المفرط، أو عند سرقة الأسلحة من الأعداء التي عادةً تكون صدئة او مستعملة أو معطوبة فتنفجر أحيانًا في يدك، وسوف تجبر أحيانًا على إصلاحها أو استبدالها بشكل مستمر، أو التخلص منها والبحث عن بديل في منتصف المعركة.
وتُعد فيزياء اللعبة ثوريةً بحق بالنسبة لوقتها، ففهم نظام انتشار النار الواقعي للغاية يُمكن أن يُغير مجرى أي معركة، إذ تنتشر النيران وتلتهم البيئة بشكل يُحاكي الواقع، كما أن البيئة قابلة للتدمير بشكل كبير، لتضيف بُعدًا غير مسبوق وفريد للمعارك، ناهيك عن حركة الليل والنهار التي كانت من أوائل اللعبة التي جسدتها يوبي سوفت بكل دقة وذكاء “حين كانت يوبيسوفت بقدرها“.
محرك Dunia Engine: قوة تقنية سابقة لعصرها
اعتمدت Far Cry 2 على محرك يحمل اسم Dunia Engine، الذي طورته Ubisoft خصيصًا لهذه اللعبة الطموحة، وقد نجح هذا المحرك في تقديم رسومات مُذهلة وقتها، بفضل دورة نهار وليل ديناميكية تُغير من مظهر العالم وتأثيراته، ونظام طقسٍ متغيرٍ يُؤثر على أسلوب اللعب سلس ومدروس، كما تميز المحرك بقدرته الفائقة على تجسيد البيئات الواسعة والمفتوحة القابلة للاستكشاف بحرية تامة، وكل ذلك أعطى اللاعب شعورًا بالانغماس الكامل في هذا العالم الإفريقي الشاسع.
مشاهد النيران وهي تلتهم كل شيء “الأخضر واليابس”، وتحرك الحشائش عند المشيء فوقها، وكذلك قطع الأغصان عند إطلاق النار عليها، وقطع أغصان الأشجار عند تعرضها للقنابل أو حواد السيارات، والدخان الذي يتصاعد من الأسلحة، ومشاهد الإصابات التي تتعرض لها، جميع ما سبق كان وصفًا بسيطًا لما جسدته تلك اللعبة الرائعة.
الذكاء الاصطناعي المنقطع النظير
أجمل ما ميز اللعبة هو الذكاء الاصطناعي للأعداء، فعلى عكس ألعاب الشركة الحالية، تميز الأعداء في لعبة Far Cry 2، بذكاء شديد، فعند إطلاق النيران على قدم أحد الأعداء سترى مشهدًا مختلفًا عند إطلاق النار على رأسه أو على يده وهكذا، وعند إصابة أحد الأعداء، ينطلق زملائه من اجل مساعدته وسحبه الى مكان آمن وسط الاشتباكات، والأهم من كل ذلك، حين تتجرأ وتهاجم أحد السجون أو المواقع، فإن الأعداء ينتهجون خطة لمحاصرتك في كل اتجاه. هذا بالفعل ما افتقدناه منذ سنوات في هذه السلسلة، وفي ألعاب الشركة ككل.
تخيل أنك تجهزت بعدد لا بأس به من القنابل، وبسلاح قناص بعيد المدى بعيار 7.62X51 ملم، مع مخزن خرطوش سعة 20 طلقة، وأردت محاصرة قاعدة عسكرية لمرتزقة للقضاء عليهم، وبدأت بإصطايدهم من أبراج المراقبة والبوابات واحدًا تلو الآخر من معاقلهم، وحين يتفطنون لك من أول طلقة، يقومون بمحاولة محاصرتك، وهنا فجأة! ينفجر القناص من يدك بسبب رصاصة معطوبة بعد أن اقترب الاعداء منك! “فلا تستغرب إنك في وسط افريقا” هذا المشهد لوحده حُفر في ذاكرتي الى يومنا هذا، وجعلني أتعلق في هذه السلسلة العظيمة رغم كل ما وصلت إليه في الحضيض.
شخصيات لا تُنسى تجاوزت النمط السائد!
على الرغم من أنها جزء من سلسلة Far Cry المعروفة، إلا أن الجزء الثاني منها يختلف بشكل كبير عن بقية الأجزاء، فهي تُقدم Far Cry 2 شخصياتٍ تتجاوز الأنماط التقليدية، فالبطل ليس الفارس الأبيض أو الأشقر مفتول العضلات الذي جاء لإنقاذ العالم، بل هو مجرد مرتزق من مستوى متدن يسعى للبقاء على قيد الحياة في بيئة معادية، مُجردًا من أي مثاليات أو بطولات زائفة.
و بينما اتجهت الأجزاء اللاحقة من السلسلة نحو الأكشن المبالغ فيه والقصص البطولية الأكثر تقليدية، إلا أن هذا الجزء تحديدًا عن غيره اتجه الى التركيز بشكل عميق على البقاء والخيارات الأخلاقية المعقدة لشخصيتك كبطل، ويبقى الجزء الثاني استثناءً فريدًا ومرجعًا مهمًا يُحاكي واقع الحروب الأهلية بشكل مُقنع ومؤثر.
أما الـ Jackal، فهو شخصية مُعقدة وغامضة، تثير فلسفته الخاصة للحرب تساؤلات عميقة حول طبيعة العنف والفساد البشري، لا يُمكن تصنيفه كشريرٍ مطلق، بل كشخصية رمادية تُجسد بشكل صادق واقع الحرب المُر وتأثيراتها المدمرة على الروح الإنسانية.
أفضل وأسوأ ما في Far Cry 2
أفضل ما في اللعبة: قصتها المُعقدة والمؤثرة، أسلوب اللعب الواقعي الذي يُجبرك على التفكير، فيزياء اللعبة المُذهلة التي تُغير المعارك، محركها الثوري Dunia Engine الذي كان سابقاً لعصره، والرسائل العميقة التي تُقدمها حول طبيعة الصراع البشري.
أسوأ ما في اللعبة، أنه قد يجد بعض اللاعبين أن نظام الملاريا الذي يتطلب علاجًا دوريًا مُزعجٌ بعض الشيء ويقطع انغماسهم، وقد يرى آخرون أن اللعبة تُركز بشكل مُبالغٍ فيه على الواقعية على حساب متعة الأكشن المتواصل، وقد لا يُناسب جميع الأذواق.
مصير السلسلة والإرثٌ الذي لا يُمحى
بعد إصدار Far Cry 2، واصلت Ubisoft تطوير السلسلة، لكنها اتخذت مسارًا مختلفًا بالتركيز على أسلوب لعب أكثر تقليدية وميلاً للأكشن المباشر. تم نقل تطوير أجزاء Far Cry اللاحقة من Ubisoft Montreal، التي أبدعت في الجزء الثاني، إلى فرق أخرى داخل الشركة. وعلى الرغم من ابتعاد السلسلة عن جذورها الواقعية والجدية التي تميزت بها Far Cry 2، إلا أن هذا الجزء يظل علامة فارقة في تاريخ ألعاب الفيديو، وتجربة لا تُنسى لكل من يبحث عن قصة عميقة، وأسلوب لعب مُتحدٍ، في عالم قاسٍ لا يرحم.
جدل Jackal هل هو Jack Carver؟
من بين أكثر جوانب Far Cry 2 إثارة للجدل والفضول هي العلاقة المحتملة بين شخصية الـ Jackal الغامضة والبطل الرئيسي للجزء الأول Jack Carver، وعلى الرغم من عدم وجود تأكيد رسمي قاطع، إلا أن هناك العديد من التلميحات والأدلة التي تُشير إلى أن الـ Jackal هو نفسه Jack Carver بعد تغيره بشكل جذري بسبب تجاربه القاسية.
الأدلة التي تدعم هذه النظرية
- صرّح Clint Hocking، المخرج الإبداعي لـ Far Cry 2، في مقابلة صحفية أن الـ Jackal قد يكون Jack Carver، مؤكدًا أنهم تركوا الأمر غامضًا عن قصد لإثارة تكهنات اللاعبين وتشجيع النقاش.
- يمكن ملاحظة بعض التشابهات الجسدية بين الـ Jackal و Jack Carver، مثل بنية الجسم ولون الشعر، وهذا يغذي المزيد من الشكوك.
- يُظهر الـ Jackal مهارات قتالية عالية وخبرة واسعة في استخدام الأسلحة، ويُشير ذلك إلى خلفية عسكرية أو قتالية سابقة تُشابه خلفية Jack Carver.
- تحتوي Far Cry 2 على ملفات مخفية تُشير إلى ماضي الـ Jackal، وتتضمن معلومات تتوافق بشكل لافت مع قصة Jack Carver في الجزء الأول، ليعزز أكثر هذه النظرية.
- في نهاية Far Cry 1، يحصل Jack Carver على وشم على ذراعه، وفي Far Cry 2، يُمكن ملاحظة أن الـ Jackal يُخفي ذراعه اليمنى دائمًا، وهذا يُشير إلى احتمالية وجود الوشم نفسه، وهي تفصيلة صغيرة لكنها ذات دلالة كبيرة.
مع ذلك، لا تزال هذه النظرية غير مؤكدة بشكل رسمي، وهناك بعض الاختلافات بين الشخصيتين تُثير الشكوك، مثل اختلاف لون العينين، لكن في النهاية، يُمكن القول أن الربط بين الـ Jackal و Jack Carver هو نظرية مثيرة للاهتمام ومدعومة بالعديد من الأدلة القوية، لكنها تبقى غير مؤكدة بشكل قاطع. فقد ترك مطورو Far Cry 2 الأمر غامضًا عن قصد، ليُفسحوا المجال أمام تفسيرات وتكهنات مختلفة من اللاعبين، ليُبقي على اللعبة سحرها وجاذبيتها حتى يومنا هذا.
رسائل عميقة
تُحاول Far Cry 2 إيصال رسائل عميقة المعنى حول عبثية الحرب، وفساد السلطة، والتأثير المدمر للعنف على النفس البشرية، وتُظهر بوضوح كيف أن الحروب لا تُنتج سوى الدمار والمعاناة على جميع الأصعدة، وأن الجميع، من مدنيين بسطاء ومُقاتلين محترفين، هم ضحايا في النهاية. كما تُسلط الضوء بجرأة على تجارة السلاح غير الشرعية ودورها الكارثي في تأجيج الصراعات المستمرة حول العالم، في إشارة للواقع الذي نشهده بأم أعيننا من مرتزقة يسعون فسادًا في كل مكان، تحت رعاية حكومات وأنظمة تحت غطاء “الديمقراطية وحقوق الانسان”.