يُعد روبوت ChatGPT، الذي أطلقته شركة OpenAI قبل عام، هو المفتاح الذي غيّر كل شيء في القطاع التقني، الذي كان يعاني من عمليات تسريح جماعية للموظفين، وعدم وجود تمويلات للشركات الناشئة بسبب الركود الاقتصادي العالمي.
سهل روبوت ChatGPT للمستخدمين استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، إذ استطاع الروبوت أن يفهم سياق الأسئلة والمحادثات، ويجيب عن الأسئلة بانسيابية عالية كما في المحادثات البشرية، وتمكن من تأليف الشعر، وساعد في حل الكثير من المشكلات.
خلال عام واحد؛ وسّع ChatGPT التصور العام للذكاء الاصطناعي، واستحوذ على خيال المستخدمين، وأثار قلق المعلمين، كما أثار منافسة شرسة بين شركتي جوجل ومايكروسوفت، وأثار المخاوف من سيطرة (الذكاء الاصطناعي العام) AGI على العالم، الأمر الذي دفع قادة سياسيين ومسؤولين تنفيذيين في كبرى شركات التكنولوجيا وخبراء في الذكاء الاصطناعي إلى الاجتماع في قمة عالمية لمناقشة ما يراه بعضهم مخاطر يشكلها الذكاء الاصطناعي، وبناء إجماع دولي بشأن التطوير الآمن لهذه التقنية الثورية.
بعد مرور عام، إليكم كيف غيّر ChatGPT القطاع التقني، وما يمكن أن يحدث بعد ذلك؟
بث حياة جديدة في وادي السيليكون:
عند العودة إلى هذا الوقت من عام 2022؛ سنجد أن القطاع التقني كله كان يعاني من عمليات تسريح جماعية غير مسبوقة للموظفين، وإجراءات لخفض التكاليف أدت إلى توقف أعداد كبيرة من الأشخاص عن العمل، وتحطيم أسطورة هيمنة وادي السيليكون.
فقد أدت جائحة (كوفيد-19)، ثم الحرب الروسية الأوكرانية – التي بدأت في شهر فبراير 2022 – إلى حدوث ركود اقتصادي عالمي، ومن ثم انخفضت أسهم كبرى الشركات التقنية في عام 2022، مما أدى إلى خسارة الشركات مليارات الدولارات من قيمتها السوقية.
وفي الوقت نفسه، أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى عدم توفر تمويل للشركات الناشئة، وخيمت سحابة من عدم اليقين على القطاع التقني كله، الأمر الذي دفع الخبراء إلى مقارنة ما يحدث بأزمة (فقاعة الدوت كوم) Dot-com bubble – التي تُسمى أيضًا (فقاعة الإنترنت) – التي حدثت قبل أكثر من عقدين من الزمن، حيث شهدت الأسهم المستثمرة في الشركات الناشطة في مجال الإنترنت في الولايات المتحدة ارتفاعًا كبيرًا، وذلك في المدة الواقعة بين عامي 1995 و2000، وقد أدى ذلك إلى نمو هائل في مؤشر (ناسداك)، ثم لحقه انهيار كبير في عام 2001.
ولكن في يوم 30 نوفمبر 2022، أطلقت شركة ناشئة تُسمى (OpenAI) إصدارًا تجريبيًا من روبوت دردشة أطلقت عليه اسم (ChatGPT)، وبين عشية وضحاها، أبهرت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي السهلة الاستخدام؛ العالم أجمع.
لقد أبهر روبوت (ChatGPT) المستخدمين بقدرته على إجراء المحادثات بانسيابية عالية تبدو مثل المحادثات البشرية، وصياغة رسائل البريد الإلكتروني، وكتابة المقالات والأكواد البرمجية وتصحيحها، وكذلك تحليل كميات كبيرة من البيانات.
وفي غضون شهرين فقط من إطلاقه، أصبح روبوت (ChatGPT) الأسرع نموًا في تاريخ تطبيقات الويب الموجهة للمستهلكين، إذ وصل إلى أكثر من 100 مليون مستخدم نشيط بحلول يناير 2023.
بالإضافة إلى ذلك؛ حفز هذا النجاح الكبير الذي حققه روبوت ChatGPT سباق الذكاء الاصطناعي بين كبرى الشركات، مما عزز قطاع التكنولوجيا المتضرر.
منافسة قوية بين جوجل ومايكروسوفت:
أثار روبوت ChatGPT منافسة جديدة شرسة بين شركتي جوجل ومايكروسوفت، إذ دفعت خطوات مايكروسوفت السريعة لإدماج الذكاء الاصطناعي التوليدي في كافة منتجاتها جوجل للتخلي عن حرصها الشديد مع منتجات الذكاء الاصطناعي التي تعمل عليها.
بدأت مايكروسوفت خطواتها الجدية في سوق الذكاء الاصطناعي في مطلع عام 2023؛ برفع استثماراتها في شركة (OpenAI) لتصل إلى 10 مليارات دولار، وقررت إدماج إمكانيات ChatGPT في منتجاتها.
ثم ردت عليها جوجل في يوم 6 من فبراير 2023؛ بإطلاقها الإصدار التجريبي الأول من روبوت الدردشة (بارد) Bard الذي يتفوق على ChatGPT؛ لأنه يسحب معلوماته من الويب لحظيًا، في حين كانت معلومات ChatGPT تستند إلى البيانات المتاحة حتى عام 2021 فقط، ولا يمكنه الإجابة عن أي شيء حدث بعد ذلك، وهذا يجعل إجاباته قديمة.
وعلى مدار العام طورت كل شركةٍ روبوت الدردشة الخاص بها، وأدمجته في معظم منتجاتها تقريبًا، إذ قدمت مايكروسوفت في شهر مارس 2023 خدمة المساعد الشخصي (Copilot) في حزمة تطبيقات (مايكروسوفت 365)، وفي شهر سبتمبر الماضي أدمجت الشركة (Copilot) في نظام التشغيل ويندوز 11، ليكون متاحًا بسلاسة عبر جميع التطبيقات والتجارب التي تستخدمها كثيرًا، ومنها: سطح مكتب ويندوز 11، و Microsoft 365، وآوتلوك، ومتصفح إيدج، ومحرك البحث Bing.
في حين قدمت جوجل في شهر مايو 2023 المساعد الذكي (Duet AI) في كافة تطبيقات (Workspace)، ليصبح متاحًا في البريد الإلكتروني (جيميل)، وخدمة التخزين السحابي (درايف)، بالإضافة إلى التطبيقات المكتبية مثل: تطبيق المستندات (دوكس)، وتطبيق العروض التقديمية (سلايدز)، وغيرها.
ثورة الذكاء الاصطناعي:
لم يقتصر سباق الذكاء الاصطناعي على شركتي جوجل ومايكروسوفت فقط، بل سارعت الشركات كلها إلى تطوير منتجاتها لتدعم الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي عزز المنافسة أكثر.
إذ أصبح الذكاء الاصطناعي الاهتمام الأكبر لشركة أمازون هذا العام، بدءًا من تطوير المساعد الصوتي (أليكسا) Alexa ليدعم النماذج اللغوية الكبيرة، ووصولًا إلى إطلاق أدوات جديدة في خدمتها السحابية (AWS) تستند في عملها إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل: نموذج (Titan) لتوليد الصور من النصوص، وروبوت الدردشة (Amazon Q) المخصص للشركات.
كما اكتشفت شركة (ميتا) Meta أن الذكاء الاصطناعي جزء مهم من مستقبلها، وربما أكثر من (الميتافيرس) Metaverse، فقد سارعت الشركة إلى تطوير روبوت الدردشة الخاص بها الذي يحمل اسم (Meta AI) وأدمجته في عدد من خدماتها، مثل واتساب وماسنجر وإنستاجرام، ثم في شهر أكتوبر 2023؛ أطلقت الشركة مجموعة من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي للمعلنين عبر منصة إدارة الإعلانات التابعة لها Ads Manager.
وساعدت رقاقات الذكاء الاصطناعي شركة (إنفيديا) Nvidia في تحقيق المركز الأول في تقييم إيرادات صناعة الرقاقات بعد أن كانت في المركز الرابع. حتى إن شركة آبل، التي تحركت ببطء بين عمالقة التكنولوجيا، بدأت تتحدث أكثر عن جهودها في مجال الذكاء الاصطناعي، وربما يكون لديها خطط كبيرة لتطوير مساعدها الصوتي (سيري) Siri قريبًا.
لذلك أطلق الخبراء على هذا العام اسم (عام الذكاء الاصطناعي)، وهناك من قال إنها حقبة جديدة للقطاع التقني، إذ مر وقت طويل منذ أن كان القطاع بأكمله مهووسًا بشيء واحد.
القلق الشديد من الذكاء الاصطناعي:
جلب التطور السريع للذكاء الاصطناعي معه أيضًا العديد من المخاوف، أبرزها قلق فئات معينة من الموظفين من استحواذ الذكاء الاصطناعي على وظائفهم، بالإضافة إلى ذلك ظهرت مخاوف تهدد البشرية.
تستمر المدارس والمعلمون حتى الآن في السعي إلى معرفة أفضل السبل لاستخدام الذكاء الاصطناعي الذي يمكن أن يكون مُعلمًا شخصيًا لكل طفل، ولكنه أيضًا يتيح للطلبة الغش على نطاق واسع، من دون القدرة على كشفهم.
كما انقلبت حياة الفنانين والمبدعين أيضًا بسبب قدرة أدوات الذكاء الاصطناعي على إنتاج المحتوى، سواء في شكل نص مكتوب أو عبر أدوات إنشاء الصور مثل: Dall-E من OpenAI. إذ تشكل هذه الأدوات بالفعل تهديدًا حقيقيًا لسبل عيش الفنانين العاملين في مجال التصميم، الذين يتسابقون الآن لإيجاد طرق لحماية أعمالهم من استخدامها في تدريب أدوات الذكاء الاصطناعي.
كما ظهر تأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل سواء داخل القطاع التقني أو خارجه، إذ وجدت دراسة أُجريت في شهر أغسطس 2023 أنه في غضون أشهر قليلة من إصدار روبوت (ChatGPT)،كان له بالفعل تأثير سلبي على فرص العاملين المستقلين عبر الإنترنت مثل: كُتاب المحتوى، ومصممي الجرافيك.
وفي الوقت نفسه، وجدت دراسة منفصلة نشرت في شهر سبتمبر 2023 أن استخدام الموظفين ذوي المهارات العالية – في شركة استشارات إدارية عالمية – أحدث إصدار من ChatGPT في عملهم ساعدهم في تحسين النتائج بنسبة قدرها 40%.
لقد مضى العديد من أبرز الشخصيات في عالم التكنولوجيا العام الماضي في الحديث عن قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإنتاجية، ومساعدتنا جميعًا على العمل بشكل أقل، وإيجاد وظائف جديدة وفُضلى في المستقبل، فعلى سبيل المثال، قال بيل جيتس، المؤسس المشارك لشركة مايكروسوفت: “في السنوات القليلة المقبلة، سيكون التأثير الرئيسي للذكاء الاصطناعي في العمل هو مساعدة الأشخاص في أداء وظائفهم بكفاءة كبرى”.
ولكن كما هو الحال غالبًا في مجال التكنولوجيا، فإن التأثير الطويل المدى لأي تقنية جديدة ليس دائمًا واضحًا، والطريق إلى النتائج المثالية غالبًا ما يكون وعرًا ومليئًا بالعواقب غير المقصودة. إذ قال بعض الموظفين إن ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي أدى في الواقع إلى زيادة العبء عليهم في وظائفهم. وحتى خارج مكان العمل، كان من المستحيل بالنسبة لمعظم الناس تجنب العواقب الأخرى غير المقصودة لهذه التكنولوجيا، مثل: طوفان المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي غمر الإنترنت خلال العام الماضي.
الذكرى السنوية الأولى لروبوت ChatGPT تحمل عنوان انقلاب مثير:
أُسست (OpenAI) في عام 2015؛ تحت مسمى منظمة غير ربحية تركز على تطوير الذكاء الاصطناعي بالطريقة التي من المرجح أن تفيد البشرية جمعاء، وفقًا لبيان نُشر في موقع OpenAI في 11 من ديسمبر 2015. وخلال عام 2023؛ قام المسؤولون التنفيذيون في OpenAI بجولة حول العالم للقاء قادة العالم والمنظمين والجمهور للإجابة عن الأسئلة والترويج لهذا الهدف على ما يبدو.
ولكن يوم الجمعة 17 من نوفمبر 2023؛ واجهت الشركة انقلابًا مثيرًا في مجلس الإدارة، أدى إلى إقالة رئيسها التنفيذي (سام ألتمان)من منصبه، وفصل المؤسس المشارك (جريج بروكمان) من منصبه رئيسًا لمجلس الإدارة.
وقد أحدث هذا الأمر فوضى في القطاع التقني كله، لكون الشركة تؤدي دورًا رئيسيًا في سوق الذكاء الاصطناعي منذ إطلاقها روبوت (ChatGPT) يوم 30 من نوفمبر 2022، وإحداثه ثورة في عالم الذكاء الاصطناعي التوليدي.
كانت الأسباب المقدمة لإقالة ألتمان في البداية غامضة؛ إذ قال مجلس إدارة شركة (OpenAI) في بيانٍ: “إن إقالة ألتمان جاءت بعد عملية مراجعة تشاورية أجراها مجلس الإدارة خلصَت إلى أنه لم يكن صريحًا دائمًا في تواصله معه، مما عاق قدرته على الوفاء بمسؤولياته”، مشيرًا إلى أنه “لم يعد يثق بقدرته على إدارة OpenAI”.
ولم تقدم الشركة أو ألتمان أي تفاصيل حول أسباب الإقالة المفاجئة، حتى عندما ثار الموظفون على إقالة ألتمان وهددوا بالمغادرة بشكل جماعي أيضًا.
ولكن خلال أيام قليلة، أعلنت الشركة عودة (سام ألتمان) رسميًا إلى منصب الرئيس التنفيذي، وكذلك عودة (جريج بروكمان) إلى منصبه، في حين أشارت بعض التقارير إلى أن بعض قادة الشركة تنازعوا في العواقب المحتملة لمشروع جديد يطلق عليه (Q-Sta) يمكن أن يكون طفرة في بحث الشركة الناشئة حول ما يُعرف باسم الذكاء العام الاصطناعي (AGI)، ولكنه قد يهدد البشرية.
بطبيعة الحال، أثار هذا الاضطراب تساؤلات جديدة حول الكيفية التي تستطيع بها شركة OpenAI تحقيق مهمتها المتمثلة في إفادة البشرية جمعاء، إذا كانت الشركة لا تكاد تستطيع الحفاظ على تماسكها.
هل وصلنا إلى نوع من الذكاء العام الاصطناعي الخارق؟
إذا توقفنا ثواني قليلة للتفكير فيما وصل إليه الذكاء الاصطناعي حتى الآن؛ سنجد أن هذه التقنية الثورية لا تزال ليست جيدة بما فيه الكفاية لتحل محل البشر، فالنماذج اللغوية الكبيرة ما زالت تعاني من الهلوسة، أي أنها لا تقدم نتائج دقيقة طول الوقت.
وإذا نظرت في صورة مصنوعة بأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي لمدة ثانيتين فقط بتدقيق، ستجد الكثير من العلامات التي تؤكد لك أنها ليست صورة حقيقة، بالإضافة إلى أن رسائل البريد الإلكتروني التي يكتبها الذكاء الاصطناعي دائمًا ما تكون ذات طابع آلي.
لذلك أنظمة الذكاء الاصطناعي ليست أكثر ذكاءً من البشر، أو أكثر إبداعًا، أو أي شيء آخر من هذا القبيل، فهي أنظمة ذكية تعتمد على البيانات التي أنتجها البشر لمساعدتهم في أداء عملهم بسرعة كبرى، ولكنها ما زالت تتشكل مثل: السيارات الذاتية القيادة. لقد أصبحت هذه الأنظمة جيدة بنحو أسرع مما توقعه أي شخص، ولكنها ستحتاج إلى الكثير من العمل والتطوير حتى تصبح جيدة بما يكفي لتكون في كل مكان ويمكن الاعتماد عليها دون القلق من نتائجها.
ومن ثم؛ لا يوجد أي سبب على الإطلاق، في الوقت الحالي، للاعتقاد بأننا سنصل إلى نوع من الذكاء العام الاصطناعي الخارق في أي وقت قريب.