شهد القطاع التقني في الآونة الأخيرة تقدمًا هائلًا في مجال الذكاء الاصطناعي، وواجهات التخاطب بين الدماغ والحاسوب التي تُعرف اختصارًا باسم (BCIs)، ففي نهاية شهر يناير 2024، نجحت شركة (نيورالينك) Neuralink في زراعة شريحة داخل دماغ رجل أمريكي يُعاني من الشلل الرباعي، وقد مكنته هذه الشريحة من التحكم بمؤشر الماوس عبر الشاشة بمجرد التفكير في الحركة.
وفي مايو 2023، أعلن باحثون أمريكيون تقنية ثورية تسمح بفك تشفير الكلمات التي يفكر فيها الشخص من خلال مسح الدماغ، وذلك باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي. كما طور باحثون في جامعة التكنولوجيا في سيدني (UTS)، قبعة تُسمى (BrainGPT) تستند في عملها إلى الذكاء الاصطناعي لقراءة أفكار العقل وترجمتها إلى نص قابل للقراءة، وقد أثار هذا المشروع ضجة إعلامية آنذاك تحت عنوان: (قبعة الذكاء الاصطناعي لقراءة الأفكار).
وهنا تثير التطورات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العصبية العديد من التساؤلات، أبرزها: هل تستطيع الغرسات العصبية والذكاء الاصطناعي قراءة العقول فعلًا، وهل سيأتي اليوم الذي تتمكن فيه الحواسيب من إصدار نصوص دقيقة لأفكارنا لحظيًا ليقرأها أي شخص؟
كما هو معتاد كل تقنية جديدة لها وجهان، فمن ناحية ستُقدم هذه التكنولوجيا فوائد محتملة للعديد من الحالات المرضية، ولكنها من ناحية أخرى ستدمر آخر معقل للخصوصية، وهو عزلة عقولنا. ومع ذلك، قبل أن نصاب بالذعر، يجب أن نتوقف ونسأل: هل ما تفعله الغرسات العصبية والذكاء الاصطناعي التوليدي هو قراءة للعقل بالمفهوم الحقيقي؟
رحلة العقل والدماغ: هل يمكن قراءة الأفكار فعلًا؟
تنبثق تجربتنا الواعية من نشاط الدماغ، هكذا وصلت أفضل معارفنا العلمية اليوم. فكل حالة ذهنية نمر بها، سواء كانت التفكير في الإمبراطورية الرومانية، أو تخيل تحرك المؤشر عبر الشاشة، تقابلها نمط خاص من نشاط الخلايا العصبية (العصبونات) في دماغنا.
يعني ذلك نظريًا أن قراءة أفكارنا باتت ممكنة من خلال أجهزة تتبع حالات الدماغ، فإذا تمكنت هذه الأجهزة من فك شفرة أنماط النشاط العصبي بدقة، فقد تصبح قادرة على تحديد ما يدور في عقولنا.
لكن تكمن التحديات الحقيقية في تحديد التطابقات الدقيقة بين حالاتنا العقلية الواعية وحالات الدماغ المقابلة لها. فالعقل البشري معقد للغاية، ونطاقه واسع لدرجة قد تجعل من الصعب ربط كل فكرة أو شعور بنمط عصبي محدد بشكلٍ دقيق.
لذلك لا زلنا نواجه تحديًا هائلًا لفهم أسرار العقل وفك طلاسمه من خلال نشاط الدماغ، إذ يتطلب ذلك معرفة دقيقة بأي الحالات الدماغية تتطابق مع حالات ذهنية معينة. وهذا يعني، على سبيل المثال: أنه يتعين علينا التمييز بين الحالات الدماغية التي تتوافق مع رؤية وردة حمراء، وتلك التي تتوافق مع شم وردة حمراء، أو لمسها أو تخيلها، أو التفكير في كونها المفضلة لدى شخص قريب منك مثل: والدتك.
كما يتعين علينا أيضًا أن نميز هذه الأنماط عن تلك التي تنشأ عند رؤية أو شم أو لمس أو تخيل أو التفكير في أشياء أخرى، مثل ليمونة. وهكذا، بالنسبة لكل شيء آخر يمكنك إدراكه أو تخيله أو التفكير فيه.
لذلك تُعدّ مهمة قراءة الأفكار من خلال نشاط الدماغ معقدة للغاية، بل قد تفوق وصفها بالصعوبة. خذ على سبيل المثال: عملية إدراك الوجوه. فالملاحظة الواعية للوجه تنطوي على تنشيط شبكات عصبية معقدة في الدماغ. لكن جزءًا كبيرًا من هذا النشاط لا يتعلق مباشرةً بإدراك الوجه نفسه، بل بعمليات أخرى مرتبطة قبل أو بعد ذلك، مثل: الذاكرة العاملة، والانتباه الانتقائي، ومراقبة الذات، وتخطيط المهام، والإبلاغ عنها.
ومن ثم، يُشكل استخلاص العمليات العصبية المسؤولة بنحو دقيق عن الإدراك الواعي للوجه تحديًا هائلًا. ولم يتمكن علم الأعصاب الحالي حتى الآن من حل هذا اللغز المُعقد. وحتى لو تمكنّا من تحقيق ذلك، فلن نصل سوى إلى تحديد الارتباطات العصبية لتجربة إدراك الوجه بنحو عام، دون القدرة على التمييز بين وجوه محددة.
لذلك، حتى لو شهد علم الأعصاب تقدمًا هائلًا في المستقبل، فإنّ قراءة الأفكار بدقة من خلال فحص الدماغ تبقى بعيدة المنال، لأن الجهاز لن يتمكن من تحديد هل ترى باراك أوباما، أم شخص قريب منك، أم وجهًا لا تعرفه.
وهنا يظهر أن قراءة الأفكار من خلال نشاط الدماغ هي مهمة معقدة للغاية، مليئة بالتحديات العلمية والتقنية، ولا يمكن تحقيقها بنحو دقيق في الوقت الحالي.
ولكن ماذا عن الذكاء الاصطناعي؟
لقد أثارت العناوين الصحفية المتعلقة بالغرسات العصبية والذكاء الاصطناعي تساؤلات حول إمكانية قراءة بعض الحالات العقلية، مثل: تخيل حركة المؤشر عبر الشاشة أو قراءة الحديث الداخلي. لكن هل تُمثل هذه التطورات خطوة حقيقية نحو قراءة الأفكار؟
دعنا نأخذ الغرسات العصبية أولًا، تهدف هذه التقنية إلى مساعدة المرضى في أداء مهام محددة، مثل: تحريك مؤشر عبر الشاشة. لتحقيق ذلك، لا تحتاج الغرسات إلى تحديد العمليات العصبية الدقيقة المرتبطة بنية تحريك المؤشر، بل يكفيها رصد النشاط العصبي العام المُرافق لهذه النية.
وبينما تُعدّ نجاحات الغرسات العصبية مُبهرة، ومن المرجح أن تُقدم الغرسات المستقبلية معلومات أكثر تفصيلًا عن نشاط الدماغ، لا تُشير هذه التطورات إلى إمكانية تحديد مطابقات دقيقة بين حالات ذهنية محددة وحالات دماغية محددة، ومن ثم، فهي لا تُقربنا من تحقيق قراءة الأفكار الحقيقية.
وبالنسبة لما يتعلق بقراءة الأفكار باستخدام نظام يجمع بين فحوصات الرنين المغناطيسي للدماغ والذكاء الاصطناعي التوليدي، فقد أظهرت دراسة حديثة أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقرأ الأفكار من خلال تحليل صور فحوصات الرنين المغناطيسي التي تقيس تدفق الدم إلى مناطق مختلفة في الدماغ.
إذ طُلب من المشاركين في الدراسة الاستماع إلى الكتب الصوتية لمدة 16 ساعة أثناء وجودهم داخل ماسح التصوير بالرنين المغناطيسي، كما شاهدوا فيلمًا صامتًا.
وفي الوقت نفسه، استخدم الباحثون نسخة مطورة من روبوت الدردشة (ChatGPT) لترجمة نشاط الدماغ إلى نص مكتوب، ما سمح لهم بقراءة أفكار المشاركين في التجربة وتحويلها إلى نص مكتوب لما كانوا يستمعون إليه، أو يتخيلونه أو يشاهدونه. ومع ذلك لم يكن هذا النظام دقيقًا للغاية، ولكن تُعدّ قدرته على توقع هذا المحتوى العقلي بنحو أفضل من مجرد الصدفة إنجازًا مثيرًا للإعجاب.
لذلك، دعنا نتخيل أن النظام يمكنه توقع سرد مُستمر من تحليل فحوصات الدماغ بدقة تامة، فعلى غرار الغرسات العصبية، سيكون النظام مُحسّنًا فقط لهذه المهمة، ولن يكون فعالًا في تتبع أي نشاط عقلي آخر.
إلى أي مدى يُمكن قراءة الأفكار باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي؟
تُثير التطورات الحديثة في مجال قراءة الأفكار باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي تساؤلات حول مدى قدرتها على مراقبة النشاط العقلي. لكن للإجابة عن هذا السؤال، يجب علينا أولًا تحديد حجم النشاط العقلي الذي يتكون من سرد مُستمر واضح المعالم ويمكن التعبير عنه بلغة مباشرة.
والحقيقة، أن هذا الجزء من النشاط العقلي محدود للغاية. فمعظم أفكارنا وتجاربنا العقلية تمتاز بأنها سريعة التغير ومتعددة المسارات، وتشمل إدراكات اللحظة الحالية والذكريات والتوقعات والخيالات، وكلها تحدث في وقت واحد.
ومن ثم، يصعب تصور كيف يمكن لنص مكتوب، حتى لو أُنتج بواسطة أذكى ماسح ضوئي للدماغ مقترنًا بأحدث تطورات الذكاء الاصطناعي، أن يلتقط كل هذه التفاصيل بدقة.
مستقبل قراءة الأفكار:
شهد الذكاء الاصطناعي في السنوات القليلة الماضية تقدمًا هائلًا، مما يُشير إلى إمكانية التغلب على بعض هذه العقبات في المستقبل. ولكن بالنظر إلى تعقيد حياتنا العقلية وفهمنا المحدود للدماغ – إذ لا يزال علم الأعصاب في مراحله الأولى – يجب التعامل مع التوقعات الجازمة حول إمكانية قراءة الأفكار بالذكاء الاصطناعي بحذر شديد.
ففي الوقت الحالي، لا يمكن لهذه التقنيات الوصول إلى مستوى دقيق في فهم جميع جوانب النشاط العقلي، ناهيك عن قراءة الأفكار بنحو كامل.