في تحول تشريعي بارز، يشهد المشهد الاقتصادي والتقني في سورية إعادة رسم كاملة، حيث أدرج الكونغرس الأمريكي إلغاء قانون قيصر ضمن مشروع قانون موازنة الدفاع الوطني للسنة المالية 2026. هذا القرار، الذي صوت عليه مجلس النواب الأمريكي لصالح إلغاء كامل للعقوبات المفروضة على سورية بموجب هذا القانون، يمهد الطريق لإنهاء حزمة عقوبات مؤثرة للغاية على القطاعات الحيوية، وعلى رأسها التكنولوجيا والاتصالات والبحث العلمي. مع اقتراب التصديق النهائي من مجلس الشيوخ وتوقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، يصبح هذا القرار نافذًا، ويمثل نقطة تحول في مسار إعادة دمج سورية في الفضاء الرقمي والعلمي العالمي.
قانون قيصر.. من أداة ضغط إلى صفحة مطوية
سُنّ قانون قيصر في ديسمبر/كانون الأول 2019، وفرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق على سورية خلال فترة حكم النظام السابق. استهدفت هذه العقوبات قطاعات متعددة، بما في ذلك التكنولوجيا والاتصالات، مما أعاق وصول المنتجات الرقمية والخدمات التقنية الحديثة إلى السوق السورية. القانون سُمي على اسم (قيصر)، وهو اللقب المستعار لفريد المذهان، المنشق عن نظام بشار الأسد الذي سرب 55 ألف صورة لضحايا التعذيب في السجون السورية.
بعد التغيير السياسي في البلاد، أكد المذهان أن العقوبات التي تحمل اسمه كانت رد فعل طبيعي على الكشف عن جرائم وانتهاكات النظام السابق، وأنها كانت ضرورية في ذلك الوقت. لكنه أشار إلى أنه بعد سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، لم تعد هناك حاجة إليها، وأنه يجب إلغاؤها بشكل كامل ودون شروط. ومن المتوقع أن يحظى مشروع قانون الدفاع بالموافقة النهائية قبل نهاية العام، بعد تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي، ليوقعه الرئيس ترمب ويصبح نافذًا.
خطوة مفصلية نحو الانفتاح الرقمي
يُعد إلغاء قانون قيصر خطوة حاسمة نحو إعادة الانفتاح على التكنولوجيا الرقمية في سورية، مع آثار مباشرة على تعزيز التحول الرقمي، وتطوير البنية التحتية للاتصالات، ودعم الاقتصاد الرقمي والابتكار التقني. وفي هذا السياق، صرح معالي وزير الاتصالات وتقانة المعلومات، عبد السلام هيكل، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عبر حسابه الرسمي على منصة “إكس” بأن إلغاء قانون قيصر وقيود التصدير من وزارة الخارجية الأمريكية سيفتح المجال أمام عودة شركات التقنية العالمية إلى سورية.
وأضاف الوزير هيكل، تزامنًا مع الزيارة التاريخية للرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن، أن هذا “الإنجاز الاستراتيجي الكبير” سيمهد الطريق للتعاون مع شركات التكنولوجيا العالمية في مشروع “سيلك لينك” وغيرها من مشاريع البنية التحتية للاتصالات الثابتة والمحمولة والأمن السيبراني والتحول الذكي. هذا التعاون يمثل فرصة ذهبية لتحديث الشبكات وتقديم خدمات متطورة للمواطنين والشركات.
“A new chapter begins between Syria and America. With SilkLink and major projects in infrastructure, cybersecurity, and digital transformation, Syria is opening new ground for partnership and investment. We welcome US and global tech leaders to be part of it. See you in Damascus.” – عبدالسلام هيكل Abdulsalam Haykal (@amhaykal) November 12, 2025
عودة التكنولوجيا العالمية إلى السوق السورية
خلال السنوات التي أعقبت فرض العقوبات، مُنعت العديد من الشركات التقنية العالمية من تقديم خدماتها في سورية، سواء في مجال البرمجيات، أو الحوسبة السحابية، أو البنية التحتية الرقمية. مع إلغاء العقوبات، من المتوقع حدوث ما يلي:
- عودة شركات التكنولوجيا العالمية لتقديم خدماتها في قطاع الاتصالات والبنية الرقمية المحلية.
- استيراد برمجيات وتراخيص حديثة كانت مقيدة أو تتطلب موافقات استثنائية.
- إتاحة خدمات الدعم الفني والتعاون التقني بين المؤسسات التعليمية والقطاع الخاص مع جهات دولية.
هذه التطورات ستعزز التجارة الإلكترونية، وتطوير التطبيقات المحلية، ودمج التعليم الرقمي في النظام التعليمي الوطني.
تعزيز البنية التحتية للاتصالات
يمثل رفع العقوبات دعمًا أساسيًا لوصول تقنيات الاتصالات الحديثة إلى سورية، وهو ما يمثل ركيزة أساسية للتحول الرقمي. يشمل ذلك:
- ترقية شبكات الاتصالات الحالية التي لا تزال تعتمد على الجيل الثالث، من خلال إقامة شراكات مع شركات معدات عالمية.
- تحسين خدمات الإنترنت وتوسيع شبكات الألياف البصرية لتصبح البنية التحتية أكثر قدرة على دعم الخدمات الرقمية المتزايدة.
هذه الخطوات ضرورية لبناء بيئة رقمية متصلة بمعايير عالمية، قادرة على دعم الخدمات الذكية وتمكين السوريين من المشاركة الفعالة في الاقتصاد الرقمي العالمي.
دعم البحث العلمي والابتكار
أبرزت التطورات الأخيرة البعد العلمي والتعليمي لإلغاء قانون قيصر. أكد الدكتور شادي العظمة، رئيس هيئة التميز والإبداع في سورية، أن تصويت مجلس النواب الأمريكي يمثل خطوة مهمة نحو توفير بيئة ملائمة للبحث العلمي والابتكار في مختلف المجالات. وأشار إلى أن إزالة القيود ستتيح للباحثين إجراء تجارب علمية بمعدات متطورة، وتنفيذ برامج مبتكرة، وتجهيز مختبرات متقدمة في الجامعات ومراكز البحث العلمي، بالإضافة إلى المشاركة في التعاون والشراكات الدولية، مثل مشاريع الاتحاد الأوروبي وبرامج التبادل الأكاديمي.
هذا التأثير التكميلي يعكس العلاقة الوثيقة بين التحول الرقمي والقدرات البحثية، حيث تساهم البنية الرقمية الحديثة في تمكين المختبرات، والوصول إلى قواعد البيانات العالمية، وتطوير مشاريع بحثية متقدمة، خاصة في مجالات العلوم الحيوية والتقنيات الحديثة.
دخول السوريين إلى الاقتصاد الرقمي العالمي
يعيد إلغاء العقوبات فرصة الاندماج في الاقتصاد الرقمي الدولي، مما سيؤثر بشكل مباشر على جودة حياة المطورين والمستخدمين، من خلال:
- تحسين خدمات الدفع الرقمي والتحويلات المالية الإلكترونية، مما يدعم التجارة الإلكترونية والشركات الناشئة.
- فتح المجال أمام المطورين السوريين للوصول إلى منصات التعلم الرقمية العالمية مثل Coursera و AWS Educate و GitHub، التي أعلنت سابقًا عودتها إلى سورية في سبتمبر/أيلول الماضي.
- تمكين العمل عن بعد مع شركات تقنية عالمية، مما يعزز المهارات الرقمية والابتكار المحلي.
بالإضافة إلى ذلك، سيتيح رفع القيود توسيع فرص التعليم الرقمي والتدريب المهني من خلال ربط الجامعات بمصادر تعلم إلكتروني عالمية، وتمكين المؤسسات الأكاديمية من استخدام أدوات وبرمجيات حديثة.
الأثر الاقتصادي للرقمنة
سيسهم إلغاء قانون قيصر أيضًا في استقرار القطاع الاقتصادي الرقمي، من خلال:
- جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات.
- دعم الشركات الناشئة المحلية للتوسع رقميًا داخل سورية وخارجها.
- خلق بيئة تنافسية تحفز الابتكار في تقديم الخدمات الرقمية.
في الختام، يمثل إلغاء قانون قيصر مرحلة مفصلية في مسار التحول الرقمي والابتكار العلمي في سورية. من خلال إعادة دمج البلاد في الفضاء الرقمي العالمي، وتعزيز البنية التحتية، ودعم البحث العلمي، يمكن للسوق السوري أن يبدأ بالتحول إلى بيئة رقمية متقدمة ومستدامة، قادرة على المنافسة في الاقتصاد الرقمي الدولي وتحقيق طفرة نوعية في مختلف القطاعات. نحن على أعتاب مستقبل رقمي واعد لسورية، ونتطلع إلى رؤية هذه التطورات الإيجابية تتحقق على أرض الواقع.
