في خضم التطور الرقمي المتسارع الذي يشهده قطاع التعليم على مستوى العالم، يبرز مفهوم التعليم الدامج كمعيار أساسي لتقييم مدى التزام السياسات التعليمية بمبادئ الشمول والعدالة. لم يعد الحديث عن توفير فرص متساوية للجميع مجرد شعار، بل أصبح ضرورة ملحة تتطلب تضافر الجهود وتوظيف أحدث التقنيات. وفي هذا السياق، شكل المؤتمر الوطني للإعاقة في سورية، الذي رعته الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، نقطة تحول هامة، حيث وضع التعليم الدامج والتقنيات المساعدة في صميم النقاشات الأكاديمية والمؤسسية، باعتبارهما أدوات استراتيجية لتمكين الأشخاص ذوي الهمم، وليس مجرد حلول مؤقتة أو ثانوية.
أهمية التعليم الدامج في سياق التحول الرقمي
يشهد العالم تحولاً رقمياً شاملاً، والتعليم ليس استثناءً. هذا التحول يفتح آفاقاً واسعة أمام التعليم الدامج، ولكنه في الوقت ذاته يطرح تحديات جديدة. فمن الضروري التأكد من أن هذه التقنيات لا تزيد من الفجوة بين المتعلمين، بل تعمل على سدها وتوفير فرص متساوية للجميع. التركيز على التعليم الدامج يضمن أن الطلاب أصحاب الهمم ليسوا مجرد متلقين سلبيين للتقنية، بل مشاركين فاعلين في تصميم وتطوير الحلول التي تلبي احتياجاتهم الخاصة. هذا يتطلب تحولاً في النظرة التقليدية للتعليم، من التركيز على “العيب” أو “القصور” إلى التركيز على القدرات والإمكانات الكامنة لدى كل فرد.
ما هو التعليم الدامج؟ تعريف وأبعاد
التعليم الدامج (Inclusive Education) هو نهج تربوي يرتكز على إدماج جميع المتعلمين، بمن فيهم الأشخاص أصحاب الهمم أو ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة، في البيئة التعليمية العادية. يهدف هذا النهج إلى الابتعاد عن سياسات العزل والتفريق، وتقديم الدعم والتكييف اللازمين لتمكين كل طالب من التعلم بفعالية. يشمل هذا الدعم جوانب متعددة، مثل:
تكييف المناهج الدراسية
تعديل المناهج لتناسب مستويات التعلم المختلفة، وتقديم مواد تعليمية متنوعة تلبي احتياجات الطلاب ذوي الإعاقات المختلفة.
تهيئة البيئة التعليمية
توفير بيئة تعليمية آمنة ومريحة، وتجهيزها بالأدوات والموارد اللازمة لتمكين الطلاب أصحاب الهمم من المشاركة الكاملة في الأنشطة الصفية.
تطوير أساليب التدريس
اعتماد أساليب تدريس تفاعلية ومتنوعة، تركز على التعلم النشط وتلبية احتياجات الطلاب الفردية.
التقنية المساعدة ودعم التعليم الدامج
لعبت التقنية دوراً محورياً في تعزيز التعليم الدامج، حيث قدمت حلولاً مبتكرة لتقليل الحواجز التعليمية التي تواجه الطلاب أصحاب الهمم. لم تعد التقنية مجرد أداة مساعدة، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من العملية التعليمية. من بين أبرز تطبيقات التقنية المساعدة:
- أدوات ومنصات رقمية: برامج القراءة والكتابة، وتطبيقات تحويل النص إلى كلام، ومنصات التعلم التفاعلية التي توفر تجارب تعليمية مخصصة.
- تهيئة البيئات التعليمية: استخدام تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز لإنشاء بيئات تعليمية محاكاة، وتوفير أدوات التحكم عن بعد لتسهيل الوصول إلى الأجهزة والموارد.
- الكشف المبكر والتأهيل: استخدام أدوات التشخيص الرقمي للكشف المبكر عن الاضطرابات النمائية، وتوفير برامج التأهيل عن بعد التي تتيح للطلاب الحصول على الدعم اللازم في أي وقت ومكان.
دور البحث العلمي والبرامج الأكاديمية في تطوير التعليم الدامج
أكد المشاركون في المؤتمر الوطني للإعاقة على أهمية البحث العلمي والتطوير الأكاديمي في دعم التعليم الدامج. صرح معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي، مروان الحلبي، بأن الوزارة تعمل على دعم البحث العلمي التطبيقي وتطوير أدوات التعلم التي تخدم هذا المجال. كما أعلن رئيس جامعة دمشق، الدكتور مصطفى صائم الدهر، عن التوجه نحو إطلاق برامج ماجستير متخصصة في العلاج النفسي السريري العصبي والعلاج النفسي، بالإضافة إلى برنامج خاص باضطراب التوحد. هذه البرامج الأكاديمية تعتبر ركيزة أساسية لتطوير المعرفة العلمية والمهارات العملية اللازمة لتأهيل الكوادر التربوية المتخصصة في التعليم الدامج.
تجارب تطبيقية ودعم دولي للتعليم الدامج في سورية
شهد المؤتمر عرضاً لتجربة التعليم الدامج في سورية، والتي تضمنت أمثلة تطبيقية ناجحة، مثل تقديم سماعات طبية للأطفال، وتجارب تعليم مهني ساعدت أطفالاً من أصحاب الهمم على الاندماج في المجتمع. كما أكدت ممثلة صندوق الأمم المتحدة للسكان، انشراح أحمد، التزام المنظمات الأممية بضمان وصول الأشخاص ذوي الهمم إلى المعلومات والخدمات، وإشراكهم في مراحل التخطيط والتنفيذ والتقييم. وبدورها، نوهت بضرورة تطوير منصات رقمية تراعي احتياجات الجميع وتطبيق ممارسات تعليمية شاملة.
نحو منظومة تعليمية تقنية شاملة
في الختام، يمثل المؤتمر الوطني للإعاقة في سورية خطوة هامة نحو بناء منظومة تعليمية تقنية شاملة، تنتقل من مجرد سياسات الرعاية إلى استراتيجيات التمكين الرقمي. إن ضمان عدم تخلف أي فرد عن الركب في عصر التحول الرقمي يتطلب التزاماً راسخاً بمبادئ التعليم الدامج، وتوظيف أحدث التقنيات لتوفير فرص تعليمية متساوية للجميع. هذا التحول لا يخدم فقط الأشخاص أصحاب الهمم، بل يعزز أيضاً مجتمعاً أكثر عدلاً وإنصافاً وشمولية.
