في قلب المشهد الأكاديمي السوري، وتحديدًا في قاعة رضا سعيد للمؤتمرات بجامعة دمشق، شهدت الأيام الماضية حدثًا بارزًا يعكس التوجه نحو تبني التقنيات الحديثة في التعليم العالي. هذه المبادرة، التي جاءت بتنظيم مشترك بين جامعة دمشق والمؤسسة التعليمية الألمانية نيوفيرستي (Newiversity)، تؤكد على أهمية الذكاء الاصطناعي في التعليم الجامعي، ليس كمفهوم نظري، بل كأداة عملية قابلة للتوظيف لتحسين جودة التعليم وسد الفجوة الرقمية المتزايدة. وقد حظي هذا الحدث بحضور لافت من نواب رئيس الجامعة وعمداء الكليات ومديري المراكز البحثية، بالإضافة إلى نخبة من طلاب الدراسات العليا، مما يعكس الاهتمام الرسمي والمجتمعي بهذا المجال الحيوي.
نحو دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي السوري
تهدف هذه الورشة إلى تحقيق نقلة نوعية في العملية التعليمية داخل جامعة دمشق، من خلال استكشاف إمكانات الذكاء الاصطناعي في التعليم الجامعي. لم يقتصر الأمر على مجرد الحديث عن هذه التقنية، بل تعداه إلى تشخيص دقيق للبنية التحتية الرقمية الحالية للجامعة، وتحديد الاحتياجات الفعلية لتطبيق أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل فعال. هذا التشخيص يمثل خطوة أساسية للانتقال من مرحلة التخطيط إلى التنفيذ، وضمان تحقيق أقصى استفادة من هذه الأدوات لصالح كل من الأساتذة والطلاب. كما تهدف المبادرة إلى دعم التحول الرقمي بشكل عام في المؤسسات التعليمية السورية.
الرؤى والتوصيات الرئيسية للورشة
ركزت فعاليات الورشة على خمسة مسارات رئيسية، شكلت معًا خارطة طريق شاملة لدمج الذكاء الاصطناعي في الجامعات السورية. هذه المسارات تناولت جوانب مختلفة، بدءًا من التحديات المحتملة وصولًا إلى التطبيقات العملية الممكنة.
الذكاء الاصطناعي: بين القبول والممانعة
أحد أهم النقاط التي طُرحت للنقاش هو التعامل مع فكرة الذكاء الاصطناعي في التعليم الجامعي، وهل هي فرصة يجب اغتنامها أم تهديد يجب الحذر منه. أكد المشاركون على ضرورة تجاوز المخاوف الأولية وتبني رؤية إيجابية تركز على الفوائد المحتملة لهذه التقنية.
المفاهيم الأساسية والتوجهات الحديثة في الذكاء الاصطناعي
تم استعراض المفاهيم الأساسية للذكاء الاصطناعي، مع التركيز على أحدث التطورات في هذا المجال. شمل ذلك شرحًا مبسطًا للتعلم الآلي، ومعالجة اللغة الطبيعية، والرؤية الحاسوبية، وكيف يمكن تطبيق هذه التقنيات في سياق التعليم الجامعي.
آفاق استخدام الذكاء الاصطناعي في جامعة دمشق
تم تخصيص جزء كبير من الورشة لاستكشاف الفرص المتاحة لتطبيق الذكاء الاصطناعي في جامعة دمشق. تضمنت هذه المناقشات أفكارًا حول استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير المناهج الدراسية، وتحسين طرق التدريس، وتقديم الدعم الفردي للطلاب.
توظيف الذكاء الاصطناعي في الممارسات الصفية
ركز هذا المسار على الجوانب العملية لتطبيق الذكاء الاصطناعي في الفصول الدراسية. تم تقديم أمثلة ملموسة لكيفية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في التخطيط للمحاضرات، وإعداد الاختبارات، وتقديم الملاحظات للطلاب، وتقييم أدائهم.
مستقبل التعليم الجامعي في ظل الذكاء الاصطناعي
اختتمت الورشة بجلسة نقاش مفتوحة حول مستقبل التعليم الجامعي في ظل التطورات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي. تم تبادل الآراء حول التحديات والفرص المحتملة، وكيف يمكن للجامعات السورية الاستعداد لهذا المستقبل.
خبراء ألمان وسوريون يدعون إلى شراكات مستدامة
شهدت الورشة مشاركة نخبة من الخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي من كل من ألمانيا وسوريا، الذين قدموا رؤى قيمة وتوصيات عملية. الدكتور فادي الشلبي، المدير التنفيذي لـ نيوفيرستي، دعا إلى تمكين الأساتذة بأدوات الذكاء الاصطناعي التي تزيد من إنتاجيتهم وتقلل من الجهد المبذول. وأعلن عن إمكانية توفير فرص تمويل لبرامج تدريبية لأعضاء هيئة التدريس.
من جانبه، أكد الدكتور نضال ظريفة على أهمية النظر إلى الذكاء الاصطناعي كـ “شريك في عملية التعلم”، وليس مجرد أداة مساعدة. ودعا إلى مراجعة أنظمة التقييم لتتماشى مع متطلبات سوق العمل المتغيرة، واستخدام الذكاء الاصطناعي على المستوى المؤسسي لتحسين إدارة الجامعات.
الدكتور يورغن فيرنر، المدير الإداري لـ نيوفيرستي، شدد على أهمية تعميق التعاون المستدام بين المؤسسات التعليمية في البلدين، ونقل الخبرات الألمانية إلى سوريا، خاصة وأن البلاد كانت “بعيدة عن هذا المجال” لسنوات طويلة.
نماذج تطبيقية واعدة من جامعة دمشق
لم تكن الورشة مجرد استعراض للنظريات والأفكار، بل شهدت أيضًا عرضًا لبعض النماذج التطبيقية الواعدة التي تم تطويرها داخل جامعة دمشق. الدكتور سامر حسام الدين من كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية عرض مثالًا على نجاح طالب في إكمال تصميم رافعة هيدروليكية معقدة باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في وقت قياسي. كما تحدث عن مشاريع “التوأم الرقمي” وجهود إطلاق منصات رقمية تهدف إلى سد الفجوة التعليمية.
الدكتورة نهى حسين قدمت دليلًا عمليًا حول كيفية استخدام الأساتذة للذكاء الاصطناعي في جميع مراحل العملية التعليمية، مع التركيز على مهارة “هندسة الأوامر التربوية”، وهي القدرة على صياغة طلبات دقيقة لأدوات الذكاء الاصطناعي للحصول على نتائج مفيدة.
مركز معلومات ومستودع رقمي: خطوة نحو بناء مستقبل المعرفة
بالتزامن مع الورشة، افتتحت جامعة دمشق مركز المعلومات والمستودع الرقمي بالتعاون مع الجمعية السورية الألمانية للبحث العلمي وجمعية غراس التنموية. يضم هذا المركز، الذي يعتبر الأول من نوعه في سوريا، نحو 200 ألف كتاب ورسالة ومقال إلكتروني، ويهدف إلى توفير بيئة معرفية حديثة للطلاب والباحثين. كما يمثل المستودع الرقمي نواة لتطوير مكتبات رقمية متقدمة، من خلال تجميع وحفظ الإنتاج الفكري للجامعة.
هذه المبادرات المتكاملة تعكس التزام جامعة دمشق بتحديث منظومتها التعليمية وتبني التقنيات الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي في التعليم الجامعي. إنها خطوة مهمة نحو بناء مستقبل أفضل للتعليم العالي في سوريا، وتمكين الطلاب والباحثين من تحقيق إمكاناتهم الكاملة. ومن المتوقع أن تساهم هذه الجهود في تعزيز مكانة جامعة دمشق كمركز رائد للبحث العلمي والابتكار في المنطقة.
