أصبح الذكاء الاصطناعي أساس التصنيع الحديث، ويظهر ذلك في خطوط الإنتاج التي تضبط نفسها لحظيًا، والآلات التي تتنبأ باحتياجات الصيانة الخاصة بها، والأنظمة التي تُسهّل كل جانب من جوانب سلسلة التوريد. ومع ذلك، فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في التصنيع مرتبط بالعديد من التحديات، وأهم هذه التحديات: ضرورة توفر البيانات العالية الجودة، والحاجة إلى المزيد من المواهب الماهرة، فحتى نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدمًا يمكن أن تفشل دون بيانات دقيقة وشاملة، بالإضافة إلى ذلك، يتطلب استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي وصيانتها قوة عاملة ماهرة في كل من تقنيات التصنيع والذكاء الاصطناعي.
لكن لماذا تُعدّ هذه التحديات حاسمة؟
لأن المصنعين الذين يتغلبون على هذه التحديات يكتسبون مزايا تنافسية كبيرة، ويمكنهم أن يتوقعوا زيادة الإنتاجية، وتخفيضات كبيرة في التكاليف، وتعزيز الابتكار، وأما الذين يفشلون في معالجة هذه التحديات فقد يبقون عالقين في سوق تنافسية بنحو متزايد، ويواجهون العقبات التشغيلية وغير ذلك من المشكلات.
أولًا: التحديات المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي في التصنيع:
إليك أبرز التحديات التي قد تواجهها الشركات عند رغبتها في استخدام الذكاء الاصطناعي في التصنيع:
1- تعرّف كيفية التعامل مع البيانات الكبيرة:
تستقبل شركات التصنيع كمية كبيرة جدًا من البيانات من أجهزة الاستشعار وأجهزة إنترنت الأشياء والآلات المترابطة، وتوفر هذه البيانات رؤى حول عمليات الإنتاج، بدءًا من أداء المعدات وحتى جودة المنتجات.
ومع ذلك، فإن إدارة هذه الكمية من البيانات يمثل تحديًا كبيرًا، ويؤثر في قدرات التخزين ويُعقّد جهود المعالجة والتحليل؛ مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى إرباك الأنظمة التقليدية.
وحتى مع وفرة البيانات، فإن الحفاظ على جودتها أمر ضروري؛ إذ تُعدّ البيانات العالية الجودة التي تتميز بالدقة والاتساق ضرورية لنماذج الذكاء الاصطناعي لتتمكن من تقديم تنبؤات وقرارات موثوقة. لكن العديد من الشركات المصنعة تواجه مشكلات تتعلق بالبيانات غير الكاملة أو غير المتسقة؛ مما يقلل فعالية تطبيقات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.
بالإضافةً إلى ذلك، غالبًا ما تكون بيانات التصنيع مجزأة عبر مختلف الأقسام والأنظمة القديمة؛ مما يجعل الحصول على رؤية شاملة للعمليات أمرًا صعبًا، وتعيق هذه التجزئة التنفيذ الفعال لأنظمة الذكاء الاصطناعي، ويتطلب إنشاء بيئة بيانات موحدة جهدًا واستثمارًا كبيرين، وغالبًا ما يتطلب إصلاحات شاملة للبنية التحتية والعمليات الحالية لتكنولوجيا المعلومات.
من ناحية أخرى، مع زيادة ترابط أنظمة التصنيع، أصبح ضمان خصوصية البيانات وأمنها أمرًا بالغ الأهمية أكثر مما سبق؛ إذ يُشكّل ظهور التهديدات السيبرانية مخاطر كبيرة على بيانات الإنتاج الحساسة؛ مما قد يؤدي إلى اضطرابات تشغيلية شديدة. ولذلك، فإن الموازنة بين إمكانية الوصول إلى البيانات والتدابير الأمنية القوية أمر ضروري، ويجب على الشركات المصنعة اعتماد ممارسات صارمة للأمن السيبراني لحماية بياناتهم مع الالتزام بالمتطلبات التنظيمية والحفاظ على الثقة وحماية عملياتهم.
2- جودة البيانات ومعالجة الأخطاء:
تعتمد فعالية تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التصنيع بنحو كبير على جودة البيانات المدخلة في النماذج؛ إذ من المهم تعزيز جودة البيانات وإزالة الأخطاء والتناقضات التي يمكن أن تؤدي إلى تحريف النتائج، وتضمن أساليب المعايرة أن تكون البيانات الواردة من مصادر مختلفة موحدة ومتوافقة؛ مما يسمح بالتكامل والتحليل السلس عبر الأنظمة المختلفة.
من ناحية أخرى، يعد اكتشاف الحالات الشاذة ضروريًا أيضًا للحفاظ على جودة البيانات، ومن خلال تحديد القيم الغريبة والأنماط غير العادية، يمكن للمصنعين معالجة الأخطاء أو المشكلات المحتملة غير الملحوظة، ويمكن أن تشير الحالات الشاذة إلى مشكلات في عملية جمع البيانات أو تكشف عن اتجاهات مهمة تتطلب مزيدًا من التحقيق؛ مما يضمن موثوقية ودقة تنبؤات الذكاء الاصطناعي.
3- نقص المواهب القادرة على التعامل مع الذكاء الاصطناعي:
يواجه اعتماد الذكاء الاصطناعي في التصنيع عقبات كبيرة بسبب نقص المهنيين المهرة، ويعد العثور على خبراء يتمتعون بفهم عميق للذكاء الاصطناعي ومعرفة عملية بعمليات التصنيع أمرًا صعبًا؛ إذ تكافح العديد من الشركات المصنعة لتوظيف المواهب التي تتمتع بالمهارات اللازمة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وعلوم البيانات؛ مما يؤدي إلى ظهور فجوة في المهارات وإبطاء عملية اعتماد أنظمة الذكاء الاصطناعي.
تشمل الأدوار الرئيسية في إنشاء أنظمة الذكاء الاصطناعي علماء البيانات، ومهندسي التعلم الآلي، والمتخصصين في مجال التصنيع، ويتمثل دور علماء البيانات في تحليل البيانات المعقدة وتفسيرها، ويطور مهندسو التعلم الآلي نماذج الذكاء الاصطناعي وينشرونها، ويضمن المتخصصون في مجال التصنيع أن حلول الذكاء الاصطناعي ذات صلة بتحديات التصنيع، ويعد الجمع بين هذه الأدوار أمرًا ضروريًا لنجاح نظام الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، فإن المنافسة على هذه المواهب شديدة؛ لأن شركات التكنولوجيا الكبيرة التي تقدم رواتب ومزايا جذابة تُصعّب على شركات التصنيع الصغيرة جذب المهنيين المهرة والاحتفاظ بهم.
ومع ذلك هناك بعض الإستراتيجيات التي يمكن اتباعها للتغلب على فجوة المواهب، ومنها:
- تحسين مهارات القوى العاملة الحالية: يمكن للمصنعين تزويد موظفيهم بالمهارات الأساسية من خلال تقديم برامج تدريبية وورش عمل وشهادات في الذكاء الاصطناعي والتقنيات ذات الصلة، كما أن توفير فرص التعلم المستمر والتطوير المهني يساعد أيضًا في الاحتفاظ بالمواهب ويعزز ثقافة التحسين المستمر.
- التعاون مع المؤسسات الأكاديمية: يُعدّ التعاون مع المؤسسات الأكاديمية أمرًا ضروريًا لسد الفجوة بين الصناعة والتعليم، ويمكن للمصنعين عقد شراكات مع الجامعات لتصميم مناهج خاصة بالذكاء الاصطناعي، وتقديم التدريب الداخلي، والمشاركة في مشاريع بحثية مشتركة؛ إذ تزود هذه الشراكات الطلاب بالخبرة العملية، وتنشئ مجموعة من المهنيين المهرة، وتشجع الابتكار من خلال البحث التعاوني.
- الاستفادة من الخبرات الخارجية: تُعدّ الاستفادة من الخبرات الخارجية إستراتيجية فعالة أخرى؛ إذ يمكن أن تؤدي الاستعانة بمصادر خارجية لمشاريع الذكاء الاصطناعي والاستعانة بخبراء خارجيين إلى تسهيل الوصول إلى التقنيات المتقدمة والمهنيين المهرة دون خبرة داخلية واسعة النطاق.
ثانيًا: أمثلة على استخدام الذكاء الاصطناعي في التصنيع:
تستفيد العديد من شركات التصنيع الرائدة من الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي، على سبيل المثال: نجحت شركة جنرال إلكتريك (GE) في تنفيذ الصيانة التنبئية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وتحليل بيانات أجهزة الاستشعار المرتبطة بالمعدات للتنبؤ بالأعطال المحتملة قبل حدوثها، وقد أدى هذا النهج الاستباقي إلى تقليل وقت توقف المعدات وتكاليف الصيانة بنحو كبير؛ مما أدى إلى تحسين الكفاءة التشغيلية وإطالة عمر الماكينات.
بالإضافة إلى ذلك، استخدمت شركة Bosch الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالطلب، وإدارة المخزون، ومراقبة الجودة، ومن خلال تحسين مستويات المخزون، تمكنت من خفض التكاليف وتحسين تلبية الطلبات.
من ناحية أخرى، شهدت مراقبة الجودة أيضًا تطورات كبيرة من خلال الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال: استخدمت شركة Siemens أنظمة تعمل بالذكاء الاصطناعي لمراقبة الجودة لحظيًا في خطوط الإنتاج الخاصة بها؛ إذ تكتشف هذه الأنظمة العيوب فورًا؛ مما يضمن الجودة العالية للمنتجات ويقلل النفايات، وقد ساعد هذا في زيادة كفاءة الإنتاج بنسبة قدرها 15%.