مرت صناعة الهواتف الذكية على مدى العقود الثلاثة الماضية بثورتين رئيسيتين، بدأت الثورة الأولى عندما ظهر الهاتف المحمول، الذي أدى إلى تغيير طريقة تواصلنا، وبدأت الثورة الثانية في النصف الأخير من هذه العقود الثلاثة عندما ظهرت الهواتف الذكية المتطورة التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
والآن، مع تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي، نشهد بداية ثورة جديدة في تاريخ الهواتف الذكية، فبفضل التقدم في مجال النماذج اللغوية الكبيرة، أصبح بإمكان الهواتف الذكية أداء مهام أكثر تعقيدًا بعدما كانت هذه التقنية حكرًا على الحواسيب العملاقة فقط.
إذ تطلق شركات الهواتف الآن أجيالًا جديدة مزودة بقدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، فعلى سبيل المثال قدمت شركة جوجل في سلسلة هواتف (Pixel 9) الشهر الماضي مجموعة من مزايا الذكاء الاصطناعي التي تعمل في الجهاز، مثل: توليد الصور وتحسين جودة المكالمات الهاتفية، كما قدمت مزية (أضفني) Add Me، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لإضافة الأشخاص إلى الصور الجماعية إذا لم يكونوا موجودين فيها، مع جعل الصورة تبدو طبيعية.
وقدمت سامسونج في سلسلة هواتف (Galaxy S24) والإصدارات الجديدة من هواتفها القابلة للطي، المساعد الذكي (Galaxy AI) ، الذي يقدم مجموعة واسعة من مزايا الذكاء الاصطناعي المصممة لتسهيل حياة المستخدمين.
ولكن كيف تمكنت هذه الشركات من نقل هذه القدرات الحسابية الضخمة المطلوبة للذكاء الاصطناعي من السحابة إلى أجهزة صغيرة بحجم الهاتف الذكي؟
لطالما كانت القدرات الحسابية الكبيرة المطلوبة لتشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي حكرًا على الخوادم العملاقة في مراكز البيانات السحابية، ولكن في ظل التقدم التقني الذي نشهده حاليًا، أدركت الشركات أهمية تمكين المستخدمين من الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي بنحو مباشر في أجهزتهم الشخصية.
ولتحقيق ذلك، نقلت الشركات جزء كبير من عمليات معالجة البيانات وتحليلها من السحابة إلى ما يُعرف باسم (الحافة) Edge، وهي عبارة عن الأجهزة الطرفية التي يستخدمها المستخدمون مباشرة، مثل الهواتف الذكية، وأجهزة إنترنت الأشياء.
ويُعدّ هذا التحول أمرًا مهمًا للعديد من الأسباب، التي من أبرزها:
- توفير خدمات أسرع وأكثر ذكاءً: بدلًا من إرسال البيانات إلى السحابة وانتظار النتائج، تُعالج محليًا في الجهاز، مما يوفر سرعة واستجابة فورية للتطبيقات.
- حماية الخصوصية: لا تُنقل البيانات الحساسة إلى السحابة، مما يحمي خصوصية المستخدم.
- تقليل الاعتماد على اتصال الإنترنت: لا يتطلب معالجة البيانات في الجهاز توفر اتصال بالإنترنت.
- تقليل استهلاك الطاقة: يساعد هذا التحول في تقليل استهلاك الطاقة، لأن العمليات الحسابية تُعالج في الجهاز مباشرة.
كيف أجرت الشركات هذا التحول؟
لجأت الشركات إلى تطوير معالجات قوية (SoC) مصممة خصوصًا لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي بكفاءة عالية، وتعتمد هذه المعالجات على وحدات معالجة عصبية (NPU) قادرة على إجراء 30 تريليون عملية حسابية في الثانية أو أكثر، مما يمكّنها من توليد محتوى جديد ومبتكر لحظيًا.
فعلى سبيل المثال، تُعدّ وحدات معالجة Tensor – التي تُعرف اختصارًا باسم (TPUs) – عنصرًا أساسيًا في تمكين قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في هواتف (9 Pixel) الجديدة، إذ طورتها جوجل خصوصًا لتسريع العمليات الحسابية المكثفة التي يتطلبها التعلم الآلي.
وتتضمن وحدات (TPUs) شبكات من المكونات تُسمى (المصفوفات الانقباضية)، التي تعمل على معالجة كميات ضخمة من البيانات في وقت واحد، ويجعل هذا التصميم الفريد معالجات (Tensor G) التي تعمل بها هواتف جوجل أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة وأسرع في تنفيذ العمليات الحسابية.
فقد أتاح معالج (Tensor G4) الجديد لهواتف (Pixel 9) تشغيل (Gemini Nano Multimodal)، مما يمكّنها من فهم النصوص والصور والأصوات بشكل أفضل وتلبية احتياجاتك بطرق أكثر ذكاءً.
وعلاوة على ذلك؛ يعزز معالج (Tensor G4) أداء هواتف (Pixel 9) بنحو كبير، إذ يوفر سرعة أكبر في تصفح الويب بنسبة تبلغ 20%، وسرعة في فتح التطبيقات بنسبة تبلغ 17% مقارنة بمعالج (Tensor G3)، كما يستهلك طاقة أقل عند أداء المهام.
وتجدر الإشارة إلى أن وحدات (TPUs) الأولية، طورتها جوجل في عام 2015، للمساعدة في تسريع العمليات الحسابية التي تقوم بها الخوادم الكبيرة المستندة إلى السحابة أثناء تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وفي عام 2018، أطلقت جوجل أول وحدات (TPUs) المصممة للأجهزة المحمولة، مما مهد الطريق لإدماج الذكاء الاصطناعي فيها، ثم في عام 2021 قدمت جوجل أول وحدات (TPUs) المصممة خصوصًا لهواتف Pixel.
الذكاء الاصطناعي وذاكرة الوصول العشوائي:
كشفت آبل الأسبوع الماضي، عن سلسلة هواتف (iPhone 16) الجديدة، التي تتميز بقدرات ذكاء اصطناعي متطورة بفضل مزايا (Apple Intelligence)، التي تتيح لك إعادة كتابة رسائل البريد الإلكتروني بلمسة إبداعية، وإنشاء رموز تعبيرية تعكس شخصيتك، والاستمتاع بتجربة سيري المحسّنة بنحو كبير، ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أضافت أبل إلى هواتفها مزية أخرى هامة وهي زيادة سعة ذاكرة الوصول العشوائي (RAM).
عادة لا تقدم آبل أي بيانات حول سعة ذاكرة الوصول العشوائي في هواتف آيفون، ومع ذلك أكد جون سروجوي، نائب الرئيس الأول لقطاع الأجهزة والتقنيات في آبل، خلال مقابلة تحدث فيها عن متطلبات الأجهزة لدعم المزايا الجديدة، أن جميع هواتف سلسلة (iPhone 16) ستعمل بذاكرة وصول عشوائي تبلغ سعتها 8 جيجابايت، مقارنة بسعة تبلغ 6 جيجابايت في طرز (iPhone 15) الأساسية التي أطلقتها الشركة العام الماضي.
ولم تكن آبل وحدها من اتخذت خطوة زيادة سعة ذاكرة الوصول العشوائي في هواتفها، فقد سبقتها جوجل الشهر الماضي، وأجرت تغييرات مماثلة في هواتف (Pixel 9)، إذ شهدت الهواتف زيادة في ذاكرة الوصول العشوائي، مما يجعل 12 جيجابايت أقل ما يمكنك الحصول عليه هذا العام.
وتُعدّ هذه الزيادة في الذاكرة هي نتيجة مباشرة لتطور الذكاء الاصطناعي، إذ إن النماذج اللغوية الكبيرة تتطلب موارد حسابية كبيرة، بما يشمل سعة ذاكرة وصول عشوائي كبيرة لتشغيلها بكفاءة.
دور الذاكرة في دعم الذكاء الاصطناعي:
لتقديم استجابات سريعة وفعالة، يجب أن تكون نماذج الذكاء الاصطناعي جاهزة للاستخدام في أي وقت. ولتحقيق ذلك، تُحمل بشكل دائم في ذاكرة الوصول العشوائي، وهذا يضمن استجابة فورية لأوامر المستخدم، بدلًا من الانتظار لوقت طويل لتحميل النموذج من التخزين الداخلي.
ولكن نماذج الذكاء الاصطناعي كبيرة أيضًا إلى حد ما، حتى النموذج الصغير، مثل (Phi-3-mini) من مايكروسوفت يشغل مساحة تبلغ 1.8 جيجابايت، مما يعني أن جزءًا كبيرًا من ذاكرة الهاتف مخصص للذكاء الاصطناعي، وقد يؤثر ذلك في أداء التطبيقات الأخرى إذ قلت سعة الذاكرة.
لذلك لم تقدم جوجل العام الماضي نموذج (Gemini Nano) في هاتف (Pixel 8)، في حين قدمته في هاتف (Pixel 8 Pro)، لأنه يحتوي على ذاكرة وصول عشوائي تبلغ سعتها 12 جيجابايت أي أكبر بمقدار 4 جيجابايت من هاتف Pixel 8. وقد أكد سيانج تشاو، نائب الرئيس والمدير العام لنظام أندرويد، أن زيادة سعة ذاكرة الوصول العشوائي في الهواتف الذكية يُعدّ عاملًا أساسيًا لتمكين مزايا الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
ويتجلى التوجه نفسه لتعزيز ذاكرة الوصول العشوائي في الحواسيب المحمولة أيضًا، إذ حددت مايكروسوفت سعة قدرها 16 جيجابايت كحد أدنى في حواسيب Copilot Plus، وهو مصطلح يشير إلى الأجهزة القادرة على تشغيل مزايا الذكاء الاصطناعي بكفاءة. كما تشير التقارير إلى أن آبل تعتزم زيادة سعة الذاكرة في حواسيبها المحمولة القادمة بعد سنوات من تقديم سعة قدرها 8 جيجابايت من ذاكرة الوصول العشوائي افتراضيًا.
ومع ذلك لم تحدد آبل بشكل صريح مقدار ذاكرة الوصول العشوائي اللازمة لتشغيل مزايا (Apple Intelligence)، ولكن كل أجهزة آبل المؤهلة للحصول على (Apple Intelligence) تحتوي على سعة تبلغ 8 جيجابايت على الأقل من ذاكرة الوصول العشوائي.
وتجدر الإشارة إلى أن هواتف (iPhone 15 Pro) المؤهلة تعمل بذاكرة تبلغ سعتها 8 جيجابايت، في حين لن تستطيع إصدارات هواتف (iPhone 15) الأساسية تشغيل (Apple Intelligence) لأنها تعمل بسعة قدرها 6 جيجابايت فقط.
قد تبدو زيادة قدرها 2 جيجابايت فقط في هواتف آيفون متواضعة، ولكنها تمثل خطوة إيجابية من آبل التي كانت بطيئة في زيادة سعة الذاكرة في أجهزتها خلال السنوات الماضية، كما تشير هذه الخطوة إلى إلى أن الشركة بدأت تستجيب لمتطلبات المستخدمين المتزايدة. ومن المتوقع أن نشهد المزيد من التطورات في هذا المجال في المستقبل القريب.