في ظل تحديات القرن الحادي والعشرين، يواجه العالم شحًا متزايدًا في المياه يهدد حياة أكثر من ملياري إنسان. لم يعد الأمن المائي مجرد هدف تنموي، بل ضرورة وجودية. ومن هذا المنطلق، برز مؤتمر الابتكار في استدامة المياه (WISC 2025) في المملكة العربية السعودية كمنصة عالمية رائدة، مؤكدةً دور المملكة كقوة دافعة نحو مستقبل أكثر أمانًا مائيًا. هذا المؤتمر ليس مجرد تجمع للخبراء، بل هو إعلان عن التزام السعودية بقيادة حقبة جديدة من الابتكار في قطاع المياه، مدعومة بالتقنيات المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
مؤتمر الابتكار في استدامة المياه 2025: نقطة تحول عالمية
انطلقت النسخة الرابعة من مؤتمر استدامة المياه برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة. شهد المؤتمر حضورًا لافتًا من 139 دولة، بالإضافة إلى مشاركة أكثر من 100 عارضًا دوليًا ومحليًا. هذا الحضور العالمي يعكس إدراك المجتمع الدولي لأهمية المؤتمر في معالجة أزمة المياه المتفاقمة.
المملكة العربية السعودية، من خلال هذا المؤتمر، ترسخ مكانتها في طليعة الدول التي تتعامل مع أزمة المياه بمنهجية علمية واستثمارية مدروسة، ورؤية وطنية شاملة. المؤتمر لم يكن مجرد ملتقى للخبراء، بل رسالة واضحة للعالم مفادها أن السعودية تمضي بثبات نحو قيادة مستقبل الموارد المائية.
تدشين “واحة المياه” في رابغ: إنجاز عالمي
شهد محافظ جدة، صاحب السمو الأمير سعود بن عبدالله بن جلوي، الإطلاق الرسمي لـ “واحة المياه” في رابغ (SWA Rabigh Water Oasis). هذا المشروع الضخم يُعدّ من أكبر المنظومات البحثية والابتكارية المتكاملة عالميًا في مجال تقنيات المياه وسلاسل الإمداد.
ولم يقتصر الإنجاز على التدشين فحسب، بل دخلت الواحة موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأكبر واحة ابتكار مائي في العالم، بمساحة معتمدة تبلغ 33,395.88 متر مربع. هذا الإنجاز يعزز ريادة المملكة في توفير منصات علمية وبحثية عالمية المستوى لتطوير حلول لمواجهة تحديات الجفاف وشح المياه.
عرض أحدث التقنيات المائية
خلال المؤتمر، عرضت الشركات الدولية والمحلية أحدث ما توصلت إليه في مجال تقنيات المياه، بما في ذلك:
- حلول التحلية المتقدمة.
- تقنيات إعادة استخدام المياه.
- الحوكمة الرقمية في إدارة الموارد المائية.
- أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة استخدام المياه.
- أنظمة خفض الفاقد من المياه.
هذا التنوع في التقنيات المعروضة يعكس المستوى المتقدم الذي تبلغه النسخة الرابعة من المؤتمر.
مبادرات وحلول استراتيجية لإدارة المياه
تضمن اليوم الأول من المؤتمر إطلاق العديد من المبادرات والمشاريع التي تعتمد على التقنيات المتقدمة لمعالجة تحديات المياه. من بين هذه المبادرات:
- حلول الذكاء الاصطناعي: إطلاق حلول شركة (إنفيديا) في مجال الحوسبة والذكاء الاصطناعي لخدمة قطاع المياه، بالإضافة إلى منصة SIO لإعادة الاستخدام والبيانات المفتوحة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
- التقنيات البيئية: مشروع استزراع الطحالب الدقيقة باستخدام رجيع المحلول الملحي (مياه الصرف الصحي) في الجبيل، وهو حل مبتكر يجمع بين معالجة المياه وإنتاج الطاقة.
- بنية التحلية: إطلاق محطات التحلية العائمة (Albahri Floating RO Barges) التي تستخدم تقنية التناضح العكسي، وهي حلول مرنة وفعالة من حيث التكلفة.
- اتفاقيات استراتيجية: تم توقيع 13 اتفاقية ومذكرة تعاون بين جهات حكومية وخاصة وأكاديمية لتعزيز الشراكة في مجال الابتكار المائي.
تكريم رواد الابتكار في مجال المياه
تم خلال المؤتمر تكريم الفائزين بجائزة الابتكار العالمية في المياه (GPIW 2025). استقطبت الجائزة أكثر من 2,500 مبتكر من 119 دولة، مما يؤكد دور المؤتمر كمركز عالمي للاعتراف بالإنجازات المائية.
- الجائزة الكبرى للاكتشاف: فاز بها جويهوا يو (Guihua Yu) عن مسار إنتاج المياه المستدام والحفاظ على البيئة.
- الجائزة الكبرى للأثر: فاز بها هانتشينج يو (HanQing Yu) عن مسار تقنيات معالجة المياه العادمة منخفضة التكلفة.
- جوائز الأثر: تم تكريم 12 فائزًا آخرين بجوائز الأثر.
فجوة التمويل: التحدي الأكبر للأمن المائي
أكد معالي المهندس عبدالله بن إبراهيم العبدالكريم، رئيس الهيئة السعودية للمياه، في كلمته الافتتاحية، أن العالم يواجه فجوة تمويلية كبيرة في قطاع المياه. وأشار إلى أن قطاع المياه يرتبط بنحو 60% من الناتج العالمي المقدر بـ 58 تريليون دولار، بينما لا يتجاوز الاستثمار في الابتكار البيئي 1% عالميًا.
وأضاف معاليه أن براءات تقنيات المياه تمثل 5% فقط من إجمالي براءات الابتكار البيئي، وأن الاستثمار الجريء في قطاع المياه يقل عن 0.5%. هذا التباين الصارخ يتطلب تحركًا عاجلًا لزيادة الاستثمار في الابتكار المائي. المملكة، من خلال رؤيتها الطموحة، تسعى إلى معالجة هذه الفجوة وتشجيع الاستثمار في هذا القطاع الحيوي. تعتبر المملكة رائدة في مجال إدارة الموارد المائية، خاصةً في صناعة التحلية.
تعاون دولي و رؤية مستقبلية
شهد المؤتمر انعقاد طاولة مستديرة برئاسة رئيس الهيئة السعودية للمياه جمعت قيادات قطاع المياه في المملكة بنظرائهم من الولايات المتحدة، مما يدل على أهمية التعاون الدولي في معالجة هذه القضية. والذي يسهم في تحقيق التقدم المنشود في هذا المجال.
بشكل عام، تميز المؤتمر بنمو ملحوظ في عدد الدول المشاركة و العارضين، مما يؤكد تأثيره المتزايد في صياغة مستقبل تقنيات المياه. نسخة 2025 تحمل في طياتها إمكانات هائلة لتسريع وتيرة الابتكار و تحقيق الأمن المائي للجميع.
ختامًا، يمثل مؤتمر الابتكار في استدامة المياه 2025 منصة محورية لتسريع وتيرة الابتكار في قطاع المياه. فمن خلال الاستثمار في التقنيات الحديثة وتشجيع التعاون الدولي، تستطيع المملكة العربية السعودية قيادة الجهود العالمية نحو مستقبل مائي مستدام للجميع.
