لم يكن عام 2025 مجرد محطة في مسار التحول الرقمي بالشرق الأوسط، بل شهدت المنطقة نقطة انعطاف استراتيجية، حيث أعلن الذكاء الاصطناعي العربي عن نفسه كقوة مؤثرة. انتقلت الدول العربية من مرحلة استهلاك التكنولوجيا إلى صياغة قواعد اللعبة العالمية في هذا المجال، مدفوعة باستثمارات ضخمة وبناء بنية تحتية متطورة. هذه التطورات بدأت تعيد تشكيل المشهد التكنولوجي العالمي، مما يضع المنطقة في صدارة الذكاء الاصطناعي.
شهد هذا العام تحولًا في التموضع الاستراتيجي للدول العربية الفاعلة، من مستهلك للتقنية إلى منتج ومنظّم. تم ذلك عبر بناء بنى تحتية سيادية، وإطلاق منصات وطنية، واستقطاب سلاسل القيمة الكاملة للذكاء الاصطناعي. هذا التحول يمثل فرصة اقتصادية وسياسية كبيرة للمنطقة، ويبرز أهمية الاستثمار في هذا المجال.
كيف سيعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل اقتصاد الشرق الأوسط؟
يشهد الاقتصاد العالمي تحولًا متسارعًا بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي. تشير التوقعات إلى أن هذه التقنيات ستساهم بنحو 15.7 تريليون دولار في الناتج الاقتصادي العالمي بحلول عام 2030. وتبرز منطقة الشرق الأوسط كلاعب رئيسي في هذا المشهد، حيث تقدّر شركة (PWC) مساهمة المنطقة بنحو 320 مليار دولار، أي ما يعادل حوالي 2% من إجمالي العوائد العالمية المتوقعة.
تتصدر السعودية والإمارات قائمة الدول الأكثر استفادة في المنطقة. تتوقع التقديرات أن يضيف الذكاء الاصطناعي أكثر من 135.2 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي للسعودية بحلول عام 2030، أي ما يمثل حوالي 12.4% من اقتصادها. أما الإمارات، فمن المتوقع أن تسهم هذه التقنية بنحو 14% من إجمالي ناتجها المحلي خلال نفس الفترة، مما يعكس الرهان الاستراتيجي الكبير على الذكاء الاصطناعي كمركّز رئيسي للنمو الاقتصادي.
دور السعودية في تطوير الذكاء الاصطناعي
تعتبر المملكة العربية السعودية واحدة من أسرع أسواق العالم نموًا في الطلب على مراكز البيانات. تتجاوز الاستثمارات المرصودة والمحققة في هذا القطاع، مدفوعة بمشاريع سيادية وصفقات تقنية، تريليون ريال سعودي. وقد شهد مؤتمر (ليب 2025) صفقات واستثمارات تقنية تجاوزت 14.9 مليار دولار، بينما بلغت قيمة الاتفاقيات الاستثمارية الموقعة في النسخة التاسعة من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار (FII 9) أكثر من 50 مليار دولار، شملت الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المتقدمة، والطاقة المتجددة.
يقود وزير الاتصالات وتقنية المعلومات السعودي، المهندس عبدالله السواحه، هذا الحراك من خلال جذب استثمارات من كبرى الشركات التقنية لإنشاء مناطق سحابية ومراكز بيانات تدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قطاعات حيوية.
شركة هيوماين: مسيرة المملكة نحو مستقبل الذكاء الاصطناعي
يعتبر إطلاق شركة (هيوماين) Humain، التي يملكها صندوق الاستثمارات العامة السعودي في مايو 2025، خطوة حاسمة نحو التنفيذ الفعلي لطموحات المملكة في مجال الذكاء الاصطناعي. تهدف الشركة إلى جعل المملكة ثالث أكبر دولة في العالم من حيث البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، بعد الولايات المتحدة والصين.
أكد وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، فيصل الإبراهيم، خلال (ملتقى الميزانية السعودية 2026) أن الذكاء الاصطناعي سيعزز الإنتاجية ويساهم في زيادة العوائد الاقتصادية والمالية من الاستثمارات. وتشير التوقعات إلى أن الشركات السعودية، مثل (هيوماين)، ستقوم بدور قيادي في الاقتصاد مستقبلاً، على غرار دور أرامكو في قطاع الطاقة.
بدأت (هيوماين) بالفعل تطوير مراكز بيانات مخصصة للذكاء الاصطناعي بقدرات أولية تبلغ 100 ميجاواط لكل موقع، مع خطط للتوسع التدريجي. كما تتعاون الشركة مع أمازون ويب سيرفيسز (AWS) لنشر وإدارة ما يصل إلى 150,000 مُسرِّع للذكاء الاصطناعي في الرياض.
الذكاء الاصطناعي الوكيلي العربي وتطبيقاته
أطلقت شركة (هيوماين) أيضًا نظام التشغيل (HUMAIN ONE) في أكتوبر 2025، ما يمثل الانتقال إلى عصر الذكاء الاصطناعي الوكيلي. يتميز هذا النظام بقدرته على أتمتة وظائف الموارد البشرية والمالية والمشتريات، فضلاً عن توفير واجهة موحدة تعتمد على اللغة الطبيعية. ويستند النظام إلى محرك التنسيق الوكيلي (agentic orchestration engine) والنموذج اللغوي الكبير (علّام) AllaM، الذي تم تطويره خصيصًا للغة العربية.
استثمارات الإمارات في الذكاء الاصطناعي
وضعت دولة الإمارات العربية المتحدة استراتيجية شاملة للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، مما جعلها مركزًا عالميًا في هذا المجال. اعتمدت أبوظبي على منظومة استثمارية متكاملة، تشمل G42 و ADQ و MGX، لتوجيه رؤوس الأموال نحو الذكاء الاصطناعي وأمن البيانات والبنية التحتية الرقمية.
وقد شهد عام 2025 شراكات مهمة مثل صفقة استثمار مايكروسوفت في شركة (G42) بقيمة 1.5 مليار دولار. إلى جانب ذلك، يعمل مشروع (ستارجيت الإمارات) على إنشاء مركز حوسبة بقدرة 5 جيجاواط. كما تركز الإمارات على دعم المشاريع الناشئة وتطوير البنية التحتية الرقمية.
الرقمنة في المغرب والتحول نحو الذكاء الاصطناعي المتقدم
تتبنى المملكة المغربية بشكل متزايد خططًا للرقمنة، بهدف تعزيز النمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل. يركز المغرب على الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتطوير الكفاءات الوطنية في مجال التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي. ويعتبر إطلاق مركز الرقمنة من أجل التنمية المستدامة (D4SD) خطوة مهمة نحو تحقيق هذه الأهداف، بالإضافة إلى الشراكات مع شركات عالمية مثل Mistral AI.
بشكل عام، يمثل عام 2025 بداية حقبة جديدة للذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط. من المتوقع أن تستمر الدول العربية في زيادة استثماراتها في هذا المجال، وأن تقوم بتطوير المزيد من الحلول المبتكرة التي تلبي احتياجاتها الخاصة. الذكاء الاصطناعي سيشكل بلا شك جزءًا لا يتجزأ من مستقبل المنطقة، وسيؤثر على جميع جوانب الحياة تقريبا. وستحتاج المنطقة إلى مواكبة التطورات المتسارعة في هذا المجال، والعمل على تطوير قوانين وتشريعات تحمي حقوق المستهلكين وتشجع الابتكار.
