واجه قطاع الذكاء الاصطناعي في الصين تحديات كبيرة في السنوات الأخيرة، أبرزها القيود الأمريكية على تصدير الرقائق المتقدمة والإطلاق اللافت لـ ChatGPT. ومع ذلك، يشهد العامان 2024 و 2025 تحولًا ملحوظًا، إذ بدأت نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية مفتوحة المصدر، مثل DeepSeek وQwen، في التفوق على النماذج الغربية المنافسة، بل وفي فرض معايير جديدة في هذا المجال. هذا الصعود يثير تساؤلات حول مستقبل المنافسة العالمية في الذكاء الاصطناعي ومكانة الصين المتنامية فيه.
في حين كانت الولايات المتحدة تحتكر تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة، بدأت الصين في التركيز على مسار مختلف، وهو تطوير نماذج مفتوحة المصدر تتميز بالمرونة والتكلفة المنخفضة. هذا التحول لم يقتصر على الجانب التقني فحسب، بل يمثل أيضًا استراتيجية أوسع لتعزيز السيادة التكنولوجية الصينية وتحدي الهيمنة الأمريكية في هذا القطاع الحيوي.
صعود النماذج الصينية مفتوحة الأوزان: تحول في ميزان القوى
أظهر تقرير حديث لمعهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المتمحور حول الإنسان (Stanford HAI) أن الصين أصبحت لاعبًا رئيسيًا في مجال نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة الأوزان. يشكل هذا الصعود تحديًا تقنيًا وجيوسياسيًا للولايات المتحدة، خاصة وأن الصين كانت تعتمد سابقًا على معمارية Llama من ميتا كنقطة انطلاق لتطوير نماذجها.
الآن، تقوم المختبرات الصينية ببناء نماذج مستقلة تمامًا، قادرة على المنافسة عالميًا. وقد تجلى ذلك بوضوح في سبتمبر 2025، عندما تفوقت عائلة نماذج Qwen التابعة لشركة علي بابا على Llama، لتصبح الأكثر تحميلًا على منصة Hugging Face. تُظهر بيانات Hugging Face أن المطورين الصينيين استحوذوا على 17.1% من إجمالي التحميلات العالمية بين أغسطس 2024 وأغسطس 2025، متجاوزين بذلك المطورين الأمريكيين الذين بلغت حصتهم 15.8%.
النماذج المغلقة مقابل النماذج المفتوحة: نهجان متباينان
هناك مساران رئيسيان لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي: النماذج المغلقة، التي تسيطر عليها الشركات الكبرى مثل OpenAI، والنماذج المفتوحة، التي تسمح بالوصول والتعديل والتوزيع بحرية. بينما تتميز النماذج المغلقة بأداء متقدم، فإنها غالبًا ما تكون باهظة التكلفة ومحدودة في إمكانية التخصيص. في المقابل، توفر النماذج المفتوحة مرونة أكبر وقدرة على التكيف مع الاحتياجات المحلية.
لماذا تركز الصين على نماذج الذكاء الاصطناعي المفتوحة؟
تتبنى الصين بشكل استراتيجي تطوير نماذج مفتوحة الأوزان لعدة أسباب. أولاً، يسمح هذا النهج بتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية، خاصة في ظل القيود المفروضة على تصدير الرقائق المتقدمة. ثانيًا، تعزز النماذج المفتوحة الابتكار المحلي وتسمح بتطويع التكنولوجيا لتلبية الاحتياجات الخاصة بالسوق الصيني. ثالثًا، تساهم النماذج المفتوحة في بناء منظومة ذكاء اصطناعي سيادية، تمنح الصين السيطرة الكاملة على بياناتها ومستقبلها الرقمي.
العوامل الرئيسية وراء التفوق الصيني
لم يتحقق هذا التفوق الصيني من فراغ، بل كان نتيجة استراتيجية مدروسة تركزت على أربعة محاور رئيسية. أولاً، تنوع الشركات المساهمة في التطوير، حيث تشارك شركات ناشئة مثل Moonshot AI وZ.ai إلى جانب الشركات الكبرى مثل علي بابا وبايدو. ثانيًا، التركيز على الكفاءة في استهلاك الموارد الحاسوبية، وذلك من خلال تبني معمارية Mixture of Experts (MoE). ثالثًا، تبني تراخيص استخدام مرنة مثل MIT وApache 2.0، مما يسهل على الشركات العالمية دمج النماذج الصينية في منتجاتها وخدماتها. وأخيرًا، التركيز على الانتشار الواسع وتلبية احتياجات الأسواق المختلفة.
كما أن وجهة النظر الصينية تركز على “الجودة الكافية للتطبيق الفعلي” بدلاً من السعي الدائم للوصول إلى الأداء الأمثل على المقاييس النظرية. هذا التوجه جعل النماذج الصينية أكثر جاذبية للشركات والمطورين الباحثين عن حلول عملية ومستقرة.
وتشمل أبرز النماذج الصينية التي ساهمت في هذا التقدم: نماذج Qwen من علي بابا، التي تتميز بدعمها للعديد من اللغات وقدراتها المتعددة الوسائط؛ ونموذج DeepSeek-R1، المعروف بكفاءته في التفكير المنطقي وحل المسائل الرياضية؛ ونموذج Kimi-K2 من Moonshot AI، المتخصص في مهام البرمجة والوكلاء الذكيين. بالإضافة إلى نموذج GLM-4.5 من Z.ai، الذي يوفر قدرات متوازنة في مجالات متعددة.
تشير التطورات الأخيرة إلى أن الصين لم تتفوق على الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي فحسب، بل إنها تعيد تعريف مفهوم الريادة في هذا المجال. فالسؤال لم يعد من يمتلك النموذج الأقوى، بل من يمتلك النموذج الأكثر تحررًا وانتشارًا وقدرة على تشكيل البنية الرقمية للعالم.
من المتوقع أن تستمر الصين في تعزيز مكانتها في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال الاستثمار في البحث والتطوير، وتشجيع الابتكار المحلي، وتبني نماذج مفتوحة المصدر. يتوقع المراقبون أن تشهد الأشهر القليلة القادمة منافسة متزايدة بين النماذج الصينية والأمريكية، مع التركيز بشكل خاص على تطوير تطبيقات عملية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم والنقل. سيكون من المهم متابعة التطورات التنظيمية والسياسات الحكومية في كلا البلدين، حيث من المتوقع أن تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مستقبل المنافسة في هذا القطاع الاستراتيجي.
