اكتشف باحثون في إسبانيا أن أبواق القوقعة التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث لم تكن مجرد أدوات موسيقية، بل لعبت دورًا حيويًا في التواصل لمسافات طويلة. وقد أظهرت دراسة حديثة، نشرت في مجلة Antiquity، أن هذه الأصداف البحرية المُعدّلة كانت قادرة على إنتاج أصوات عالية وواضحة، مما يشير إلى استخدامها في تنظيم الأنشطة المجتمعية والإشارة في المناظر الطبيعية. هذا الاكتشاف يلقي الضوء على مدى تعقيد المجتمعات البشرية القديمة وقدرتها على تطوير تقنيات مبتكرة.
تم العثور على هذه الأبواق في منطقة كاتالونيا شمال شرق إسبانيا، وتحديدًا في حوض نهر يوبريجات والمنطقة الساحلية المجاورة. تشير الأدلة الأثرية إلى أن هذه الأصداف كانت تُجمع بعناية، حيث يتم إزالة الجزء العلوي من القوقعة لتسهيل النفخ فيها وإنتاج الصوت. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين افترضوا سابقًا أن هذه الأدوات كانت مخصصة للاستخدام الموسيقي فقط، إلا أن الدراسة الجديدة تضيف بعدًا جديدًا لفهم وظائفها.
أبواق القوقعة: أكثر من مجرد آلات موسيقية
وفقًا للدراسة، فإن القدرة على إنتاج أصوات عالية الكثافة جعلت أبواق القوقعة فعالة للغاية في التواصل عبر المسافات، خاصة في المناطق الجبلية أو المفتوحة. ولتحقيق هذه النتيجة، قام الباحثون بتجربة الأبواق الأثرية بأنفسهم، مع الأخذ في الاعتبار التحديات المحتملة التي واجهها الأشخاص في العصر الحجري الحديث.
التواصل والأنشطة المجتمعية
تشير النتائج إلى أن هذه الأبواق ربما استُخدمت لتنسيق الأنشطة الزراعية، أو لتنبيه المجتمعات إلى وجود حيوانات مفترسة، أو حتى للإعلان عن الأحداث الاجتماعية الهامة. كما أن توزيع هذه الأبواق عبر مواقع متعددة في كاتالونيا يشير إلى أنها كانت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للمجتمعات القديمة.
الجانب الموسيقي
بالإضافة إلى وظائفها العملية، اكتشف الباحثون أن أبواق القوقعة قادرة أيضًا على إنتاج مجموعة متنوعة من النغمات والألحان. وقد أشار ميكيل لوبيز غارسيا، وهو عالم آثار وعازف بوق محترف شارك في الدراسة، إلى أن هذه الأصداف يمكن أن تستخدم للتعبير عن المشاعر أو لإضفاء طابع احتفالي على المناسبات الخاصة. الأحافير الموسيقية، أو الآلات الموسيقية القديمة، في العصر الحجري الحديث، هي موضوع بحثي متزايد الأهمية.
يلفت الباحثون الانتباه إلى أن اكتشافهم لا يقتصر على إظهار القدرات الصوتية لهذه الأدوات فحسب، بل يسلط الضوء أيضًا على المعرفة البيئية العميقة التي تمتلكها المجتمعات القديمة. فهم ليسوا مجرد صانعي الأدوات، بل كانوا أيضًا مراقبين دقيقين للعالم الطبيعي، قادرين على اختيار واستخدام المواد المناسبة لأغراض محددة. وهذا يعزز فهمنا للعلاقة بين الإنسان والبيئة في عصور ما قبل التاريخ.
إن استخدام الأصداف البحرية كأدوات صوتية ليس فريدًا لإسبانيا، فقد تم العثور على أدلة مماثلة في مواقع أثرية أخرى حول العالم. و لكن الدراسة الحالية تميزت بنهجها العملي الذي سمح للباحثين بتجربة الأبواق بأنفسهم وتقدير إمكاناتها بشكل كامل. كما أنها تساهم في فهم أوسع للتطورات التكنولوجية والثقافية التي حدثت خلال العصر الحجري الحديث.
تعتبر هذه الدراسة جزءًا من جهد متزايد لاستكشاف دور الصوت في المجتمعات القديمة. يبحث علماء الآثار والموسيقيون الآن في إمكانية استخدام الأصوات الاصطناعية لإعادة بناء المشهد الصوتي للعصور القديمة، مما قد يوفر رؤى جديدة حول طرق تفكير وأحاسيس أجدادنا. توسيع نطاق البحث في علم الآثار الصوتي يعد خطوة أساسية في استكشاف تاريخنا البشري.
من المتوقع أن يواصل الباحثون دراسة أبواق القوقعة المكتشفة في كاتالونيا، مع التركيز على تحديد أنواع الأصداف المستخدمة والتقنيات المستخدمة في تعديلها. كما يخططون لإجراء المزيد من التجارب الصوتية، بهدف فهم النطاق الكامل لإمكانات هذه الأدوات. ستساعد هذه الجهود في بناء صورة أكثر تفصيلاً عن الحياة في العصر الحجري الحديث، وستلقي الضوء على الدور الذي لعبه الصوت في تشكيل المجتمعات البشرية القديمة.
