كشفت أحدث الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي عن تحول محتمل في طريقة تطوير الأنظمة الذكية، بعيدًا عن الاعتماد الكلي على النماذج اللغوية. وتركز هذه الأبحاث، بقيادة العالمة في-في لي، على أهمية اكتساب الآلات فهمًا متعمقًا للعالم المادي، بما في ذلك الحركة والمسافة والعلاقات المكانية، وهو ما يُعزز مفهوم الذكاء المكاني. وتشير لي إلى أن الإبداع الحقيقي في الذكاء الاصطناعي لن يتحقق إلا من خلال هذا الفهم.
تأتي هذه الرؤية في وقت يشهد فيه الذكاء الاصطناعي تطورات سريعة بفضل النماذج اللغوية الضخمة، لكن لي ترى أن هذه النماذج تواجه قيودًا أساسية في قدرتها على التفاعل مع العالم الحقيقي. ووفقًا لتحليلاتها، فإن هذه النماذج تفتقد إلى القدرات التي اكتسبتها الكائنات الحية قبل مئات الملايين من السنين، وهي القدرة على إدراك الموقع والفضاء.
حدود النماذج اللغوية وأهمية الذكاء المكاني
أوضحت لي أن النماذج اللغوية الحالية، على الرغم من قدرتها الفائقة في معالجة النصوص، تفتقر إلى الفهم الفيزيائي للعالم المحيط. حتى النماذج المتعددة الوسائط، القادرة على معالجة الصور، تواجه صعوبات في تقدير المسافات أو الأحجام أو الاتجاهات بشكل دقيق، كما يتضح من عدم قدرتها على إنجاز مهام بسيطة مثل تدوير جسم ذهنيًا.
وتشير الأبحاث إلى أن البشر يدمجون الإدراك المكاني والمعنى بشكل تلقائي وفوري، حيث نفهم ليس فقط شكل الكائن، بل أيضًا وزنه وحجمه وموقعه بالنسبة لنا. هذه القدرات المتكاملة هي التي تمكننا من التفاعل مع البيئة بفعالية، وهي قدرات لا تزال بعيدة المنال بالنسبة للذكاء الاصطناعي.
وترى لي أن تطور الذكاء بدأ بحلقات بسيطة من الإدراك والحركة، ثم تطور إلى التفاعل مع البيئة والتفكير والتخطيط. معظم المهام البشرية، من القيادة إلى الرسم، تعتمد بشكل كبير على الوعي المكاني، وليس فقط على اللغة.
أمثلة تاريخية على قوة الإدراك المكاني
استشهدت لي بأمثلة تاريخية تبرهن على أهمية الإدراك المكاني في تحقيق الاكتشافات العلمية. فحساب العالم إراتوستينس لمحيط الأرض اعتمد على ملاحظة دقيقة للظلال في موقعين مختلفين، بالإضافة إلى فهم العلاقات الهندسية. كما أن اكتشاف هيكل الحمض النووي كان نتيجة تجارب عملية على نماذج ثلاثية الأبعاد.
وتؤكد لي أن هذه الإنجازات لم تكن ممكنة بالاعتماد على اللغة والكلمات فقط، بل على “الذكاء المكاني” وقدرة العلماء على تصور وفهم العلاقات المكانية المعقدة.
نحو “نماذج العالم” القادمة
تتوقع لي أن المرحلة القادمة في تطوير الذكاء الاصطناعي ستشهد ظهور ما تسميه “نماذج العالم” (World Models)، وهي أنظمة قادرة على بناء تمثيلات ثلاثية الأبعاد للعالم، والتنبؤ بالتغيرات التي تحدث عند التفاعل معه. يجب أن تكون هذه النماذج قادرة على توليد بيئات افتراضية، ومعالجة مختلف أنواع البيانات مثل النصوص والصور والفيديو، والتفاعل مع المستخدمين.
وتصف لي هذا التحدي بأنه “أكبر من أي تحد واجهته تقنيات الذكاء الاصطناعي من قبل”، لأن بناء نموذج دقيق للعالم يتطلب فهمًا عميقًا لقوانين الفيزياء والرياضيات، وليس مجرد معالجة لغوية مجردة.
تعمل شركة World Labs، التي أسستها لي، على تطوير نموذج تجريبي باسم “Marble” يهدف إلى تحقيق هذه الرؤية. وتركز الشركة على إيجاد “قيمة تدريبية” تستند إلى مبدأ التنبؤ بحركة الأشياء في الفضاء، بدلًا من مجرد التنبؤ بالكلمة التالية.
بالتوازي مع ذلك، تعمل شركة “Spaitial” الألمانية على تطوير نماذج أساسية مكانية قادرة على توليد عوالم ثلاثية الأبعاد واقعية أو خيالية، مع الحفاظ على اتساق المادة والهندسة والحركة. وتتماشى جهود هذه الشركات مع الاعتقاد بأن الذكاء المكاني هو مفتاح تطوير أنظمة ذكية قادرة على فهم العالم والتفاعل معه بفعالية.
وكشفت لي أن “Marble” حاليًا يتيح للمصممين والفنانين إنشاء بيئات ثلاثية الأبعاد بشكل فوري، على الرغم من أن النموذج لا يزال يعاني من بعض القيود في الحفاظ على الثبات في المشاهد المرئية. التطبيقات المستقبلية المحتملة تشمل الروبوتات التي تحتاج إلى فهم مكاني دقيق للإمساك بالأشياء والتنقل، بالإضافة إلى إجراء محاكاة علمية متقدمة واستكشاف البيئات التي يصعب الوصول إليها.
توافق الآراء في المجتمع العلمي
تشارك لي هذا الرأي العديد من العلماء البارزين الآخرين في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل يان لوكون، كبير علماء الذكاء الاصطناعي في ميتا سابقًا. ويرى لوكون أن النماذج اللغوية الضخمة، على الرغم من إمكانياتها، تفتقر إلى الخبرة الحسية والفهم العميق للعالم الحقيقي.
ويتفق العالمان على أن تطوير الذكاء الاصطناعي يتطلب التركيز على “نماذج العالم” والذكاء المكاني القائم على البيانات البصرية والمكانية، وهي مقاربة تضع الفهم العميق للبيئة في صميم البحث العلمي.
من المتوقع أن تشهد السنوات القادمة تسارعًا في تطوير هذه النماذج، مع التركيز على جمع وتحليل البيانات البصرية والمكانية الضخمة. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة أمام تحقيق هذا الهدف، مثل تطوير خوارزميات قادرة على استخلاص المعلومات الهامة من هذه البيانات، وضمان اتساق النماذج مع قوانين الفيزياء. ويجب مراقبة التقدم المحرز في هذا المجال عن كثب، وتقييم مدى تأثيره على مختلف التطبيقات الصناعية والعلمية.
