لطالما اعتبرت واشنطن تقييد الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة بمثابة أداة رئيسية لإبطاء التقدم التكنولوجي الصيني، إلا أن جهودًا صينية مكثفة، يُشار إليها بـ “مشروع مانهاتن”، بدأت تُظهر نتائج ملموسة. فقد تمكنت بكين من تحقيق اختراق كبير في تطوير آلة طباعة ضوئية بالأشعة فوق البنفسجية القصوى (EUV)، وهي تقنية كانت حكرًا على الغرب لسنوات طويلة، مما يهدد بتغيير ميزان القوى في صناعة الرقائق الإلكترونية العالمية.
يأتي هذا الإنجاز من مدينة شينزين، حيث نجح فريق من العلماء والمهندسين في بناء نموذج أولي لآلة EUV، وهي الأداة الحاسمة لإنتاج الرقائق الأكثر تطوراً المستخدمة في كل شيء من الهواتف الذكية إلى الأنظمة الدفاعية. يمثل هذا التقدم تحديًا مباشرًا للهيمنة التي تتمتع بها شركة ASML الهولندية، ويضع الصين على أعتاب تحقيق سيادة تكنولوجية أكبر في هذا المجال الحيوي.
أشباه الموصلات: كيف حققت الصين هذا الإنجاز؟
على مدى سنوات، احتكرت شركة ASML الهولندية سوق آلات الطباعة الضوئية بالأشعة فوق البنفسجية القصوى (EUV)، حيث تبلغ تكلفة كل آلة حوالي 250 مليون دولار. لكن تقريرًا حديثًا لوكالة رويترز كشف أن الصين اتبعت نهجًا يعتمد على الهندسة العكسية لآلات ASML القديمة، والتي تم الحصول عليها من خلال أسواق ثانوية، بهدف فهم وتكرار هذه التكنولوجيا المعقدة.
تفاصيل النموذج الأولي الصيني:
يتميز النموذج الأولي الذي طورته الصين بأنه أكبر حجمًا من آلات ASML، حيث يشغل مساحة تعادل طابق مصنع كامل، وذلك لضمان استقرار الطاقة الإنتاجية. الآلة قادرة حاليًا على توليد الأشعة فوق البنفسجية القصوى بنجاح، وتخضع الآن لاختبارات مكثفة لإنتاج أول رقاقة صالحة للعمل. تشير التقديرات الحالية إلى أن الصين قد تتمكن من إنتاج رقاقات تجارية باستخدام هذه التقنية بحلول عام 2028 أو 2030.
“مشروع مانهاتن” الصيني: السرية والضخامة
وصف مراقبون هذا الجهد بأنه “مشروع مانهاتن الصيني”، في إشارة إلى السرية الشديدة والنطاق الواسع الذي اتسم به مشروع القنبلة الذرية الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية. تتولى شركة هواوي، بالتعاون مع معاهد بحثية حكومية، قيادة شبكة معقدة تضم آلاف المهندسين الذين يعملون في ظروف أمنية مشددة.
يهدف هذا المشروع الطموح إلى تقليل اعتماد الصين على الولايات المتحدة في سلسلة التوريد الخاصة بأشباه الموصلات، وتمكينها من إنتاج رقاقات متطورة باستخدام آلات محلية الصنع بالكامل. وفقًا لـ جاري نج، كبير الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في بنك Natixis، فإن نجاح الصين في هذا المسعى سيعزز نفوذها الجيوسياسي بشكل كبير، خاصة في مجال الدفاع.
أهمية تقنية EUV للسيادة التكنولوجية
تعتبر تقنية EUV حجر الزاوية في إنتاج الرقائق المتقدمة، وهي الرقائق التي تشغل تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة، والحوسبة عالية الأداء، والأنظمة العسكرية الحديثة. تستخدم هذه التقنية أشعة فوق بنفسجية قصيرة الطول لنحت الدوائر الإلكترونية على رقائق السيليكون بدقة متناهية، تفوق دقة شعرة الإنسان بآلاف المرات. كلما تقلصت أبعاد هذه الدوائر، زادت القدرة الحاسوبية وكفاءة الرقاقة.
حتى الآن، كانت ASML الهولندية هي الشركة الوحيدة القادرة على إنتاج آلات EUV. وقد استثمرت الشركة مليارات اليوروهات في البحث والتطوير على مدى عقدين من الزمن قبل أن تتمكن من إنتاج أول رقاقة تجارية باستخدام هذه التقنية في عام 2019. وقد أكدت ASML أن محاكاة هذه التكنولوجيا ليست مهمة سهلة.
منذ عام 2018، مارست الولايات المتحدة ضغوطًا على هولندا لمنع ASML من تصدير آلات EUV إلى الصين، في محاولة لعرقلة تقدمها التكنولوجي. وقد بلغت هذه القيود ذروتها في عام 2022 بفرض ضوابط تصدير شاملة تهدف إلى عزل الصين عن مستقبل أشباه الموصلات.
آليات الصين لتجاوز العقوبات
في مواجهة هذه العقوبات، اتبعت الصين استراتيجية متعددة الجوانب لتطوير قدراتها في مجال أشباه الموصلات. شملت هذه الاستراتيجية استقطاب الكفاءات، والاستفادة من سلاسل التوريد الخفية، والتركيز على تطوير البصريات المتقدمة.
قامت الصين باستقطاب مهندسين سابقين في ASML من خلال حوافز مالية كبيرة وعروض عمل مغرية. كما عملت على إعادة تدوير التكنولوجيا من خلال الحصول على آلات قديمة وتفكيكها للحصول على قطع الغيار النادرة. بالإضافة إلى ذلك، استثمرت بكثافة في تطوير البصريات المتقدمة، وهي مكون رئيسي في آلات EUV.
الخطوات التالية والآفاق المستقبلية
تتوقع الحكومة الصينية البدء في إنتاج الرقائق الإلكترونية المتقدمة باستخدام هذه الآلات بحلول عام 2028، على الرغم من أن بعض الخبراء يرون أن عام 2030 هو موعد أكثر واقعية. في الوقت الحالي، تواصل هواوي وشركات صينية أخرى العمل على تطوير طرق بديلة لإنتاج الرقائق باستخدام تقنيات DUV القديمة.
يمثل التقدم الذي أحرزته الصين في مجال تقنية EUV نقطة تحول محتملة في صناعة أشباه الموصلات العالمية. سيكون من المهم مراقبة التطورات المستقبلية، بما في ذلك قدرة الصين على التغلب على التحديات التقنية المتبقية، ورد فعل الولايات المتحدة وحلفائها على هذا التقدم، وتأثير ذلك على سوق أشباه الموصلات العالمي.
